* يوسف يوسف
(ثقافات)
بكتابه ” الاستشراق ” يكون المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد قد وضع اصبعه وفي جرأة نادرة على حقيقة الاستشراق ، الذي حاول العاملون في هذا الجانب من نشاط الغرب العقلي إخفاءها وراء مقولات غايتها تضليل المتلقي ، وزرع فايروس الكراهية فيها لكل من هم خارج قارة أوروبا ، بمن فيهم العرب والمسلمون على حد سواء . وإدوارد سعيد المسيحي الفلسطيني الذي تعين في جامعة كولومبيا الأمريكية عام 1963باعتباره أمريكيا ، والذي تمّ وصفه من قبل البعض آنذاك بأنه يهودي اسكندراني ( من الاسكندرية ) ، لم يمنعه كل هذا الذي كان يعتبر آنذاك من المحسنات الضامنة للحصول على عمل جيد ، والعيش حتى في رغد وبحبوحة من النظر إلى الواقع كما ينبغي له أن ينظر إليه ، وهو الذي كان في بدايات نشاطه الفكري قد طرح على نفسه العديد من الأسئلة ، ومنها السؤال الهام الذي كان من نتائج الاجابة عليه ظهور كتاب الاستشراق ، ونقصد السؤال الذي كان على النحو التالي : ألا توجد طريقة لمعالجة النص غير الطريقة التي تبعده عن العالم الذي ينشأ فيه أصلا ، ويعود إليه لاحقا بعد ان يتشكل نصا رفيع المستوى ؟ إن إدوارد الذي انتبه إلى كل من دنيوية النص ، وظرفيته ، ومكانته في حياة المستعمر وسلوكه مثلا ، وما يمكن أن يحقق له من الأهداف ، هو نفسه الذي اقتنع وبعد دراسات عميقة ومضيئة أنه في مقابل نصّ الهيمنة ، لا بدّ من وجود أو ظهور نصّ مقاوم ” إن ثقافة الامبريالية نصّ تولد الهيمنة منه نصّ ثقافة المقاومة بشكل تلقائي ” .
ما سبق ذكره من سؤال إدوارد حول كيفية قراءة النصّ وسواه من أسئلة كثيرة ظل يطرحها على نفسه طيلة حياته ، وضعه في منزلة العالم الذي وجد أن من أهم واجباته كناقد ومفكر أن يحطم اوثان الفكر، وهي منزلة وإن اختلفت عن منازل الأنبياء الذين يأتون إلى البشر برسالات سماوية ، فإنها تلتقي في مهماتها مع مهماتهم في رفض تقديس الكوزمولوجيا السائدة ، أولئك – الأنبياء في رفض الكوزمولوجيا الداعية إلى عبادة الأصنام الحجرية في أزمنتهم قبل آلاف السنين ، وإدوارد في رفض الكوزمولوجيا الداعية إلى تقديس أنسجة لغوية مخرومة وأنساق فكرية عفا عليها الزمن وماتت بموت رجالاتها ولم تعد ثمة جدوى من ورائها . وكأن إدوارد في كل ما ظل يقوم به قبل وفاته، إنما قد سعى إلى إحداث ثورة فكرية ، بقي فيها يمتحن موقف إدوارد أمام ذاته ،وأمام تاريخه الذي كان يرسمه بكل جماع قوته ، وبعناد ، وهو ما جعله واحدا من أهم وأبرز من خرجوا على ما كان سائدا في الغرب وأمريكا ، من التأسيسات السياسية بالدرجة الأساس ، التي تراكمت فوق بعضها خلال عشرات السنين ، فجعلت الوعي الجماعي هناك ، يغفل عن الحقيقة التي ظل خطاب المستعمر يقصفها بمختلف أدوات التعبير لدرجة أنه استطاع أن يمحقها في الكثير من الأمكنة . إن إدوارد سعيد الذي نتحدث عنه هنا ، ليس هو نفسه الذي كان يمكن أن يكونه فيما لو لم يقف أمام الأسئلة سابقة الذكر . إنه إدوارد آخر ، فلسطيني ومسيحي وأمريكي جميعها في آن واحدة ، ولكنه ليس كمثل أولئك الأمريكيين الذي بلغ فيهم إيمانهم المسيحي كمثل ما بلغ عند الأوروبيين ، بحيث صار من نتيجته تعصبهم في غالبيتهم ، وإعلانهم المتكرر بأن جميع الديانات ما عدا المسيحية ، ذات أصل شيطاني ، وأنها عقائد زائفة تجب محاربتها .
وإدوارد سعيد في كل ما سعى من أجله ودعا إليه ، لم يتحرك في منأى عن الدين من أجل عبادة علمانية ، يقدس فيها كائنا آخر ، شخصية سياسية كان هذا الكائن أو فكرية أو أدبية أو غير هذا . كما أنه لم بأت بفكرة اجتماعية أوسياسية محددة ليدعو الناس لعبادتها، بعد أن يكون هو نفسه إدوارد سعيد قد خولها إلى أيقونة يسبغ عليها من الصفات ما يحتم عبادتها . لقد فعل كل هذا وسواه الكثير ، وهو المفكر العلماني الذي خرج كما سبق القول على أعراف الغرب الذي كان له أثر كبير في تكوين ثقافته وفي سلوكه أيضا ، ليبحث عن مدينة الانسان ، تلك التي بحث عنها المفكر المتوسطي الآخر ليفكو الإيطالي . ولعلنا أمام كتابه الشهير ” تغطية الاسلام ” نتبين جوانب هامة من شخصيته تضاف إلى ما نعرفه عنه ، ومن بين أهمها انتماؤه إلى الله ، ليس على وفق ما هو سائد من طرق الانتماء إليه باعتباره خالقا ومعبودا في آن واحدة تحتم عبادته تأدية طقوس وعبادات بعينها ، وإنما على وفق ما يفهمه هو عن الانتماء إلى الله ، من حيث هو انتماء إلى البشر جميعهم وليس إلى أحدهم دون الآخر . وهذه هي نفسها فكرة الانتماء الوجودي الذي كان يؤمن به ، وحمملته في متونها مؤلفاته . هذا ما يؤمن به وينتمي إليه ، بدل الانتماء إلى دين محدد من الأديان الموجودة بين ملايين البشر ، وبدل الانتماء إلى مذهب ، أو عشيرة ، يلغي أو يحدد في تعبير ادق ، الكثير من جوانب وجود وحياة الانسان ، ايا كان اسمه : غدوارد أو بنيامين أو قاسم أو غيرذلك من الأسماء .
يقول إدوارد في كتابه ” تغطية الاسلام ” : لم يسبق لأي دين أو جماعة ثقافية أن قيل عنها بكل هذه الثقة ما يقال الآن عن الاسلام من أنه يمثل تهديدا للحضارة الغربية . وليس من قبيل الصدفة أن الاضطراب والفوضى الحادثتين راهنا في العالم الاسلامي ، واللذين يتعلقان إلى حد كبير بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية أكثر مما يتعلقان بالاسلام نفسه ، وقد كشف عن ضيق الأفق الذي ينطوي عليه ترديد الكليشيهات الاستشراقية الساذجة عن ” الجبرية ” في الاسلام ، دون إحلال شيء في محلها في الوقت ذاته ، سوى الحنين إلى الأيام الخوالي .
هكذا ومن خلال عين ترى ما لا يراه الكثيرون في الغرب ، فإن إدوارد يفضح العديد من البداهات التي تراكمت فوق بعضها باعتبارها نهايات أو عتبات يمنع تجاوزها. إنه بعلمانيته يختلف عن أولئك الذين تغذت علمانيتهم من الكثير مما في العقلية البطريركية اللاهوتية التي لا ترى سوى نفسها ، وأما عقليات الآخرين ودياناتهم فإنها تكاد لا تعترف بوجودها ، أو هي إن اعترفت بهذا الوجود ، فإنما باعتبارها عقليات منحطة ، أو ديانات شيطانية . ومعنى هذا فإنه في الوقت الذي لا يؤمن فيه بمساحات مقدسة من حقها الامتداد والاستحواذ عما لدى الآخرين من المساحات ، فإنه يعطي لكل ذي حق حقه . إننا إذا ما جاز لنا استعارة عبارة ” الحقيقة هي الأمل والعمل ” من الأمريكي ريتشارد دروتي ، فإنه سيكون في مقدورنا القول أخيرا بأن إدوارد ومن خلال نظرته الثاقبة ، وعينه التي ترى ما وراء الأكمة أيضا ، قد أقام نمطا من العلاقة الحيوية بينه وبين الحقيقة ، على أساس الإيمان بتاريخيته هو كمخلوق إنساني ، لا يمكن أن يكون وجوده عابرا أو بلا سبب ، إلا إذا قبل بأن ينزل من علياء العقل ، الذي وضعه الله فيه كمؤسس لهذا الكون ، وهو ما لم يقبله في جميع كتاباته ، حتى لو كان ذلك كله سيحمله إلى خلافات مع الكثيرين ، وهو ما قد حصل قبل موته ، ومنها خلافه مع أولئك الذين قالوا وفي تجني واضح ، عكس ما قاله في المسلمين والعرب وهو المسيحي ، وذلك في معزل عن مقولات الكهان والسياسيين ، ممن يتحدثون عن قداسات مزعومة ، وديانات شيطانية ، ومهمات يكلفهم لاهوتهم الاستعماري بها .
_________
* كاتب من فلسطين يقيم في كردستان