الأدب المكتوب باللغة الفرنسية: أهو منفى الجزائري أم غنيمة حرب؟


*أزراج عمر

مازال النقاش دائرا بحدة حول هوية الأدب المكتوب باللغة الفرنسية من قبل كثير من الجزائريين، إذ هناك من يعتبره جزءا من هوية فرنسا، وهناك من يرفض هذا ويرى أنه أدب جزائري.

في هذا السياق، وعطفا على التصور السالف رأينا عددا من المعلقين والنقاد ينظرون إلى هذا الأدب المكتوب من طرف الأدباء الجزائريين باللغة الفرنسية في عهد الاستعمار الفرنسي أو في مرحلة الاستقلال على أنه لم يستكمل إلا “نصف دينه” أي أنه ناقص هوية ووطنية.
لا شك أن مثل هذا الحكم متطرف في موقفه لأنه يصدر غالبا عن عدم الإطلاع على مضامين هذا الأدب إطلاعا خاليا من الأفكار المسبقة التعسفية ولأن أصحابه يعيَرون هوية أدبية الأدب و مضامينه بمعيار مفردات اللغة.
اللغة موقف
من المعروف أن الأدباء الجزائريين الذين اختاروا الكتابة باللغة الفرنسية جراء عدم تعلمهم للغة العربية قد استعملوا ولازالوا يستعملون مفــردات اللغة الفرنسية للتعبير عن البنيات الروحية والثقافية والاجتماعــية المميزة لمجتمعهم الجــزائري أي عن سمات وخصائص الهوية الجزائرية، وفي هذا الإطار اعتقد أن عــدم التمييز بــين اللغة كنظام نحوي وصرفي ومفــردات وبين اللغــة كسجل رمزي مرتبط بالحساسيــة الوطنيــة وبالأبعاد الروحية والماديــة للأمة وباستراتيجيــات المقاومة هــو السبب في اعتبــار كل من يكتب بلغة أجنبية أنه يلغــي هوية وطنه ويصير ناطقا باسم النسيج الثقافي والفكــري اــلذي تنتمـي إليــه تلــك اللغــة – الوسيـط.
أرى أن المسؤولين المباشرين عن هذا النوع من الموقف المعياري هم بعض الأدباء الناطقين بالفرنسية أنفسهم منهم كاتب ياسين الذي قال مرَة بأن “اللغة الفرنسية غنيمة حرب”، ومالك حداد الذي صرخ بتوتر: “إن اللغة الفرنسية منفاي”، وهكذا فهمت عبارة الأول فهما بيولوجيا وأن ما تلده هذه الغنيمة-السبية سيفسد النسل الوطني، أما مالك حداد فقد فهم من طرف جوقة المعربين المتطرفين بأنه يطلب النجدة لإخراجه من المنفى.
من الناحية السلوكية فإن كاتب ياسين ومالك حداد جزائريان لم يرتكبا إثم موالاة الاستعمار الفرنسي على المستوى الشخصي والسياسي، أو على مستوى المواقف التي هي مضامين التجربة الأدبية، ويقال الشيء نفسه على محمد ديب ومولود فرعون ومولود معمري وآسيا جبار وغيرهم.
الفلسطيني بالإنكليزية
هنا نتساءل: هل الكتابة باللغة الأجنبية تمثل خروجا عن الملة وارتكابا لمعصية الخيانة الوطنية؟ إذا كان الأمر هكذا فإن إدوارد سعيد الذي أنجز كل أعماله الفكرية باللغة الإنكليزية يكون بدوره خارجا عن الملة والهوية الفلسطينية.
وإذا كان الأمر هكذا أيضا فإن الشاعر بوشكين الذي هو من أصول أفريقية يستحق لعنة القارة السمراء لأنه لم يطور اللغة الأمهرية أو اللغة السواحيلية بدلا عن اللغة الروسية التي كانت قبله نائمة على ضفاف نهر الفولغا. مرة سألت الصديق الكاتب الجنوبي الأفريقي الراحل ألكس لاغوما عن سبب لجوئه إلى اللغة الإنكليزية فرّد عليّ قائلا بأنها تساعده على جعل قضية تحرير بلاده مسموعة في العالم.
في أفريقيا العميقة دار حوار خصب حول مسألة الأدب المكتوب من طرف الأفارقة باللغة الإنكليزية بين “نجوجي واثنيونجو” و”شينوا أشيبي” وفيه قال أشيبي: “بأن الأدب الوطني في نيجريا وعدد آخر من الدول الأفريقية مكتوب بالإنكليزية أو سوف يكتب بها”، وأضاف أشيبي مبرزا: “أشعر أن اللغة الإنكليزية ستكون قادرة على نقل أهمية تجربتي الشخصية الأفريقية وأنها يجب أن لا تكون على صلة تامة مع موطنها الأصلي، إنه يجب أن تتغير لتناسب الأجواء الأفريقية الجديدة”.
انطلاقا من هذه الاعتبارات فإن اللغات كألفاظ ونحو، وصرف، وبلاغة وموفيمات ليست استعمارية في حد ذاتها، بل إن مضامين الأدب هي التي تجعل منها استعمارية أو وطنية مقاومة.
فالأدباء الجزائريون باللغة الفرنسية لا يعكسون الهوية الفرنسية ولا يمجدونها وإنما هم في صراع معها كما أنهم قد تمكنوا من إحداث تغييرات فيها مما جعلها “تنطق” بالكفاح التحريري الجزائري، وبذلك قد جعلوها تنقلب على أهلها المستعمرين، وأسمي هذه العملية بعملية تحرير اللغة الفرنسية من الاستعمار.
وهنا أتفق مع الناقدة الأميركية آنيا لومبا في قولها: “إن اختيار اللغة لا يمثل دوما وبوضوح مواقف إيديولوجية أو سياسية، وخاصة إذا كان هذا الاختيار يهدف إلى خدمة التحرر من الاستعمار ومخلفاته ومن كافة أشكال التخلف الذاتي في مرحلة ما بعد الاستعمار التقليدي”.
_______
*(العرب) اللندنية

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *