*د. إسماعيل مهنانة
(ثقافات)
فـالنّاس… تطلبُ أبديةً ليست من جنس الحب. واللّهفة بعمر نَيسَان وزهر الكرَز، لا تهفوَ إلا لتخبو. أغنية قديمة تنبعث من راديو الجيران. (بالمناسبة، هل تقرئين شِعر الهايكو؟ هل تقتلعك صباحات أيلول؟) ليس من شهامة الحبّ أن نجعل من خواف الوحدة “برنامج تقاعُد”. الحنين؟ الحنين ديّانةٌ لا نبيّ لها، خِتانٌ للقلب يحجُّ بنا كلّ خريف إلى موطن الكَبوة. لا حجّ يبلسم مساءنا الكليم. مساؤنا مدَد. والحنين حبّات المطرِ الأولى لفصلنا المدلل. هذا الصّباح، كان المطارُ كعادته، مسرحا لفضائح النسيان. وأنتِ أنتِ، وشمٌ متنمّرٌ في ليل المكان.
باريس، رائحة القهوة تسارع كعوب النساء العالية، ودقّات قلبي تضبط طبول المنفى من جديد. لا شيء يزّفك إلى المنفى إلا رائحة البول وهمس العشّاق في ميترو الأنفاق. وجوهٌ ناضرة إلى وقتها ناظرة: -كأسُ نبيذ من فضلك، قُلت-. لا يتعبني جرّ الحقائب، لكن جرّ الأوطان أثقل كاهلي. آهٍ أيها المطر الجنونيّ، هلاّ صعقةً تعيدني إليك غريبا عنّي، كائنا من الشّمال إلى الشّمال.
هل قلتُ لك أن معطفكِ الأحمر كان لوناَ آخرَ للسّذاجة؟. كان عرسا بهيجا وحفلةً للعفاريت المعربدة فوق سطوح المدينة. كم نسينا ذلك الزّمن. فقد مرّ على الله زمنٌ لم يكن فيه أحد. ونحنُ نحنُ، أبناءٌ لتلك الأرض التي كانت لنا ولم تعد لأحد. لم نكن نتهيّأ لصيفٍ متعجّلٍ. لم نكن ندري أن أرضنا ستختفي من تحت المحاريث بهذه السرعة. أهلكناها بزراعة الشوفان، واستُنفد مِلحها بالتقليب على نفس السُّمك الاشتراكي. أذكُر أنه كانت لنا مروجُ وأغنام ورعاة يسحبون القمر خلفهم كل غَسق. كنّا نجدّل الثّوم والبصل ولم نكن نجوع.
يموتُ العاشقُ الأمازيغيُّ عند أوّل رصاصة، فيغدو “أخاً”. ترثيه الحبيبةُ محنيةً على الجثمان: “خويا خويا..”. أخا للأرض، أخاً لترانيم الفضّة على معصمي الحبيبة. لا يموت الأمازيغيُّ إلا غدرا. قبل سنوات لم يكن موتنا يطرحُ أية مشكلة سياسية، وقبل عشرّيات لم يكن مشكلة ميتافيزيقية، وقبل نصف قرن كانت الموتُ مهنتنا. دائما كنّا نموت، وانتهى. أمّا اليوم فقد أضحى الموت مؤسسة. أضحى تجارة يقتات فوقها كل من فقد القدرة على الضّحك. تميّع الموت من قلّة الضّحك، وأصبح عطشا تذروه رياح الجنوب: نموت الآن بالنصف والربع وبالتقسيط الممل. كان الأمازيغيُّ يحصل على موته كاملا.
يعود جبريل وينفخُ في الرّماد. الجمرةُ الجمرة، نصّ متوهّج. قلنا نعم، نصّ متوهّج. دونك الدفء يا صاحبي. “وقد عهد إلى الإنسان من قبل فنسي”.. النسيان، استقالةُ لأجناس الأرض من عبء السّماء. النسيان راحة الأحياء من رزح الغياب. وإعفاء للموتى من الحضور عند كل قسمة للميراث.لكلّ شيءِ علّة كافية توجده إلا النسيان فيعدم العلل، لكنّه يحتفظ بغاية يجهلها الأحياء.
__________
* كاتب من الجزائر