نوري الراوي و”يوتوبيا” المدينة


*زهير الجبوري

ما الذي يبحث عنه التشكيلي العراقي نوري الراوي في لوحاته بعد العمر الطويل الذي كرسه في عالم اللوحة ..؟ ما سرّ تعلقه بالمكان ..؟ ما المدينة التي يغور بتفاصيل أمكنتها واستحداثاتها اللّونية ..؟ هل يبحث عن يوتوبياه ..؟ إذن ثمّة متواليات ثيمية مستمرة عنده للوصول إلى قصديته المتفردة في ذلك .. ففي كل مرحلة من مراحل اشتغالاته المتواصلة ، نلمس تلك الزحمة من الرموز المطلة على استنهاض الذاكرة ومحاولة الإمساك بالزمن الأولالذي نشأ فيه وشكّل عنده صوراً متراكمة ، ليخلق مدينته ، إنها ( مدينة الطفولة الضائعة ، التي غرقت في المياه إلىالأبد ، تعاود الرجوع لكيما تستفز ، وتعذب ، وتطلب استمرار الحب ، والعودة إلى الشبحية ) ـ بحسب جبرا إبراهيم جبرا ـ .

ما تتميز به لوحات نوري الراوي الأخيرةأنها حملت سمات ومفردات مشحونة بالشكل المرتبط بالحياء الشرقي ، فهو لا يريد فتح ثيماته المتمركزة بعمقها الدلالي على أنها تعطي معنى سطحياً للمكان ، حتى في بعض أعماله المتداخلة مع المهارة التعبيرية للشكل ، فبالرغم من تقانة الأداء وتوهج الألوان ، لكنها بقيت أسيرة ذلك الانفعال المغمس بالسلوك الاجتماعي ، واستقراء ظواهر الواقع المعاش لديه ، واحدث من كل ذلك فناً بالشكل الذي شاهدناه .. أرى أنه يشتغل في عالم اللّوحة وملحقاتها بوصفها موقفاً ذاتياً ، أو تعبيراً نفسياً عن جوهر ذاته ، ومع قوة الخيال وشيخوخة فرشاته ، وتجريبه لكافة أدوات الاشتغال الفني في اللّوحة لعقود من السنوات ، لكن ذلك لم يشفع له في تحليل أعماله على أنها بقيت أسيرة تلك اللّحظة التي عبر عن وجود أسرار هذا المكان .. إنها ( يوتوبيا ) المدينة التي مهدت له الخروج إلى عالمه الذي هو فيه .. 
في الحقيقة ، ظهرت آراء لبعض نقادنا الذين تناولوا تجربة الراوي على أنها تجربة متداخلة بين البناء الصوري والإيحاء النغمي ، أو البناء الصوري المعبر عن نشوة الذات المتماهية مع جدل المكان .. أقول ، هذا الوصف دقيق ، لكنه يمثل طرفاً من من طرفي شعرية الشكل الفني الذي اشتعل عليه الفنان في كل تجاربه ، فـ(نوري الراوي) يحمل حساً شعرياً كبيراً في تعامله مع الشكل ومع اللّون ، لذا حوّل المدينة إلى نصشعري / بصري ، أو بمعنى أدق شعرية النص البصري ، ثمّأعطىهرمونات أنثوية لألوانه لتكون براقة ، حتى تلك التي رسم فيها القباب والأشجار والمياه والمشاحيف ، ليعبر عن وجود طاقة موحية بما هو مضمر جمالياً ، وهذه ميزة في غاية الدقة والروعة التي لمسناها في أعماله ..
حافظ الفنان الراوي كثيرا على نمطه منذ بواكير اشتغالاتهالأولى في المعارض الجماعية والشخصية ، ولعل ما أثار الدهشة في أعماله ، انك تلمس مفردات لها عمقها المثيولوجي الخفي ، ما منحه التمسك الشديد بحساسية الشكل ، لكنها مثيولوجية شعبية ، تبحث عن حوار حزين عبر زمن مقهور ، وهذا التواصل مع الموضوعات الثابتة لديه ، إنما يعكس الترابط الروحي المتناظر مع مكونات مشبعة بجدل موضوعي / ثقافي .. بانفعال استثنائي لمسألة المكان وجغرافيته وعاداته وسلوكه ، وحين يكمل عملاً في هكذا موضوع ، أوأعمالا فيه ، يدرك ان الحقيقة غير مكتملة ، لأن ما في دواخل الأشياء (مسكوت عنه) ، ربما يثير الجدل والحوار وزعزعة الثابت ، تمنيت لو كسر أطر أشكاله ، فهو قد استوحى الإطار الخارجي لأمكنته ، هي عادة ما تغرينا بزخارف تقليدية ، مثل أية مدينة ، أو مثل أي شكل تقبله العين .. 
ولعل السؤال المثير جدلاً في اغلب أعمالالفنان .. ما سرّ الطبيعة التي لازمته كثيراً ..؟ وما سرّ العلاقة الايروتيكية لجسد الأنثى ..؟ وكيف يمكن الإمساك بحيثيات كل واحدة منهما ..؟ ربما تستنهض جميع أعماله (لوحاته) وحتى التخطيطية منها ، لتعلن ان الفضاءات التي تدور في ذهنه ، هي فضاءات انفعالية ، بل شديدة الحساسية ، منها ما اقتضت إلى استجابته إلى لا وعيه في المكان ( القباب .. والمشاحيف .. والنواعير ، وما إلى ذلك ) ، ومنها ما منحته الغور بتفاصيل الجسد الأنثويبوصفه يشكل أنموذجا جماليا لديه ، مع الانتباهة الدقيقة ، انه ـ أي الفنان ـ تغلب عليه الصفة التعبيرية في طريقته الفنية ، وهنا نلمس مدى تركيزه على صياغة عمل متكامل مثلما شاهدناه.. 
إن التباين الحاصل في تجربة هذا الفنان الكبير ، ينطوي على جدل واضح في إثارة المشهد داخل إطار مدينة يكررها كثيراً في لوحاته بأساليب إنشائية ولونية مختلفة ، نشعر بأن هناك طاقة مشحونة بأسرار كبيرة يريد سحبها وإبانتها على السطح ، لذا أوصل لنا مشاهد المدينة بأشكالها المختلفة (النهارية واللّيلية ) ، فمن خلال ذلك وظّف اللّون لصقل وجه المدينة ، وبهرَجَه ¬بلمعاناتهالمهارية وبأسلوبه المعهود ، ليقنعنا بأنها ـ أي مدينته ـ تمتلك أسرارا روحية وفضائل كبيرة ، أو فيها (يوتوبياه) الباحثة عن كل مكونات الكمال .. 
المثير والمدهش في لوحات الفنان ، أننا نلمس تداخل الأشكال فيما بينها ، فبالرغم من كونها تعكس للوهلة الأولى قراءة المكان وتفاصيله المعروفة ، فإنه يخفي داخل أشكاله بنية الإنسان ، لا أعرف إلىأي مدى يريد إقناعنا بأن الإنسان منصهر داخل ثيمة الشكل لديه ؟ وهي ميزة جاءت عن فعل قصدي ، أو ربما يريد إحالتنا بـأن المكان الذي أنتجته مخيلته داخل لوحاته ، هو مكان ملائكي ، أسس له إطاره العام وفق ضرورات فنية .. أو ربما تأخذ الأشكال وظائف أخرى لو كانت هناك تركيزات اجناسية متداخلة في اللّوحات ، سواء كانت مع الإنسان ككائن فاعل ومنتج للطبيعة أم مع كائنات أخرى لها مساس مباشر بالإنسان ، أعتقد بأن الحفاظ على النسق يقتضي فعل ذلك ، ولا أجزم بأن الراوي لا يربط علاقته بالكائنات بقدر ما يعمل على استخدامها بمناطق معينة ومحصورة ( وهذا من وجهة نظر خاصة ).. 
الهواجس حاضرة في المكان ، لكنها تحتاج إلى وعي في التلقي ، وحين يكتمل الوعي نكتشف ان عالم اللّون قد نجح في افتراضات نوري الراوي ، لأنه حقق الجدلية المعرفية / البصرية التي اشتغل عليها منذ وقت طويل ، وبالتالي تصبح المعادلة متوازنة حين ننظر إلى المكان بوصفه شكلاً معبراً عن مدينة هائمة ومتعالية بسحرها الرباني ، ولا يمكن الدخول إلى عالمها إلاّ اذا اكتملت مواصفات الدخول إليها ، رغم هامشيتها المقصودة على ارض الواقع ، إنها في حقيقة الأمر قراءة ذكية في إثارة هكذا موضوعات ، لأنها تقرؤنا وتقرأ تفاصيلنا السسيوواقعيةوالسسيوسايكولوجية ، ثمّ تبدأ عملية التشخيص في إعطاء الواقع دلالاته المشحونة بشعرية بصرية في غاية الدقة والرصانة والمهارة ، مثلما فعل (راوينا ) الكبير ، وهذا ما جعل لوحاته تمثل هوية المكان العراقي في الكثير من أمكنة العالم ، وهو أيضاً لا يزال منتجاً لهذا الواقع بأعماله التي شاهدناها مؤخراً ..
وإذا ما أدركنا التعامل الإحساسي الكبير الذي اشتغل عليه الفنان في مساحته وفضاءاته الخاصة ، فإنها تبين جدل العلاقة المتماثلة مع الطبيعة العاكسة لقراءة واقع (مجتمعي) ، مهما كانت ملموسة أو مشبعة بحقائق خيالية ، فهي تقف عند حدود الأشكال البصرية ، حتى أن (بيير جيرو) أشارإلى ( ان الفنون صور وتمثيل للطبيعة والمجتمع ، سواء كانت حقيقية أم خيالية ، مرئية أم غير مرئية ، موضوعية أم ذاتية ) ، لذلك كانت جميع الأعمال التي لامست الواقع بمظاهر المدن الريفية ، تمثل الهوية الكاشفة لبقعة غافية في غرب البلد (العراقي) وأعني (راوة العراق) ، ولعل الصراحة الملحّة في الغور داخل إطار الموضوعة المشتغل عليها ، تبرهن الإصرار في الانتماء الجغرافي الأول ، وعملية تكريس الموروث بأشكال مختلفة ، والإمساك بحركة الأمكنة واللّعب فيها بأساليب مقنعة على أنها قابعة في سرديات بصرية ، أوأنها تقبع في مرويات النص البصري بوصفها جزءاً مهماً من الأمكنة (اليوتوبيا) التي تكتمل فيها سمات الفضيلة .. 
في كثير من المحطات التاريخية التي شهدتها أمكنتنا , كانت هناك تحولات جذرية وتحولات خلقت تغيرات عن سابقتها من كافة الجوانب ، منها ما فتح التعامل التقني الحديث ومنها ما كشف عن ممارسة (الموضات) المعاصرة ومنها ما غير ديكور الأمكنة ذاتها مثلما حصل في سنواتنا الأخيرة … غير ان نوري الراوي ظل متمسكاً بدلالته (المكنية) مؤكدا للمتلقي الصورة الأولى التي ظهرت في أعمالهبأشكال مختلفة وهي الصورة التي تبقى وستبقى ما دام هناك عرق يحافظ على شكل المدينة ومفرداتها الثابتة وان لوظيفة اللّون متعة قبول الأشكال المرسومة لديه , ولنصارح الفنان ونقول : هل ثمة أدواتأخرى يمكن إضافتها لأعمالك اذا ما كشفت مدينتك الأم عن نقابها الجديد ؟ 
يمكن أن نبرهن أن كل ماقدمه الفنان من علامات (مكنية) ، هو ولعه بالموروث الشفاهي الأول مهما كانت هناك دلالات تاريخية تكشف عن رؤية مفتوحة وواسعة لطبيعة المكان وأبعاده الذاتية , لكنه مكانٌ في نص (لوحة) وبلغة لونية متعالية، وفنان مثله يحمل من الخبرة الكبيرة في التعامل مع اللون تجعله يخلق عالمه التشكيلي مثلما يريد لتصبح مدينته هي مدينة خلق فني عبر فلسفة اللّون وخبرة توظيفه , مدينة فاضلة , مشحونة بإيقاعات الزمن عبر توليفات هندسية لأشكالها…
_________
*(المدى)

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *