*السيد نجم
كم نحن في حاجة إلى الوعي بمفهوم المقاومة، وكيف أن الثقافة تلعب دورا لا يهمل، ولعله الدور الرئيس في التمهيد إلى كشف حيل الآخر العدواني، في قهر الحرية واستلاب الهوية والتمهيد لشيوع الفساد والاستبداد. إن الوعي (الثقافي) وحده، هو القادر على تهيئة العقول فى مواجهة “الإرهاب”.
إننا في مصر الآن، نعيش فترة مخاض حقيقي، لعلها تماثل الفترة الأولى لثورة 1919 التي استمرت حتى كان دستور1923. وربما لا تماثل الفترة اللاحقة لثورة 1952، حيث قامت الثورة على مبادئ محددة، تجلت فى بعدها الاجتماعي بقانون تحديد الملكية الزراعية (سبتمبر 1952)، ولكنها قد تماثل الفترة القليلة السابقة واللاحقة لحرب 1956.
هل التاريخ المصري المعاصر يكشف كل فترة (حوالي الخمسين سنة) عن معدن هذا الشعب العريق، صاحب الخبرات المتراكمة؟.. ربما. ومع ذلك فإن البعد المحرك خلف كل تلك المتغيرات، هو البعد الخفي/ الظاهر.. البعد الثقافي، ولعلي أقولها جلية اليوم:
“إن ما نعيشه الآن ولسنوات قادمة، هو صراع ثقافي في جوهره!”
* تجلت ملامح هذا الصراع الثقافي على جانين:
: الجانب الأول.. ما يتعلق بالقوى الخارجية
إن العالم الخارجي (شرقا وغربا من غير الدول العربية) ومنذ الحرب العالمية الثانية، أصبح التوجه العام لها هو “المصالح الاقتصادية” خصوصا بعد أن سقطت فكرة الهيمنة والإرهاب العسكري بفشل أهداف العدوان الثلاثي على مصر في 1956. وأصبحت النشاطات والتوجهات الثقافية هي أهم محاور تزكية الهدف الاقتصادي.
يكفي الإشارة إلى منهج المدرسة الأميركية في “الاستشراف”، فلم تكن الولايات المتحدة الأميركية تعبأ كثيرا بما يعرف بالاستشراق، مكتفية بتواجد بعض المدارس والجامعات هنا أو هناك في العالم العربي، وخصوصا في لبنان.
لكنها قررت بعد الحرب العالمية الثانية، اقتحام هذا المجال بمدرسة جديدة، حيث أنشأت قسما بحثيا تعليميا خاصا بجامعة “هارفارد” وفيه مجموعة من الباحثين العرب، على رأسهم “ادوارد سعيد”، صاحبة مدرسة “الاستشراق الجغرافي”.. والتي تعتمد على تقسيم العالم العربي إلى مناطق تدرس كل منطقة وحدها (الخليج – شمال إفريقيا – وادي النيل- الشام والعراق).. على العكس من المدرسة الأوروبية التي تعتمد على دراسة الأفراد أو الكتب فرادى في العالم العربي أو البلدان المحيطة به مثل إيران. وكان المدخل للتعرف على كل المكونات الثقافية لهذه البلد أو تلك.
وحققت “هارفارد” بذلك هدف توظيف الثقافة من أجل الهيمنة. وهو ما استتبع بالعديد من التطبيقات الثقافية: الإعلان عن الجوائز – إنشاء الدوريات والصحف – النشاط الثقافي للبعثات الدبلوماسية.. وغيرها (ولا تبرأ جائزة نوبل من هذا التوجه، خصوصا فرع السلام فيها).
: الجانب الثاني.. ما يتعلق بالقوى الداخلية
.. لأكثر من أربعين سنة تعرضت مصر للتجريف الثقافي، وفقد المثقف والثقافة الدور المنوط لكل منهما. تمثل ذلك في عزل الثقافة والمثقف عن التلاحم بقضايا البلاد، بل الانشغال بالبحث عن لقمة العيش، بالالتحاق بإحدى المؤسسات الحكومية لضمان الارتزاق، وبالتالي الانتماء للسلطة. كما بدت أحيانا جوائز الدولة كمنحة خاصة من الدولة. وقد قالها “فاروق حسني” ـ وهو أطول من مارس مهام وزارة الثقافة في تاريخ مصر ـ : “سوف ادخل المثقفين الحظيرة”. وبذلك بدت الثقافة والمثقف بلا دور فاعل.
.. في المقابل بدت جماعة الإخوان المسلمون (التي حلت عام 1954)، أكثر تنظيما وفاعلية في نشاطها التثقيفي (بصرف النظر عن مكونات تلك الثقافة).. لعل الركيزة الأولى التي عمل عليها التنظيم هي “الثقافة” سواء في شكلها العقائدي المرتبط بالتنظيم وأفكاره وتوجهاته، أو تلقين منهجية التلقي وأسلوب وطريقة التفكير للعضو المنتسب.
من ملامح منهج التثقيف ذاك: تلقين العضو ما يجب أن يعرفه فقط، ضمن منهج خاص للمفاهيم حتى الدينية منها.. عزل العضو عن تلقي أية وسائل تثقيفية أخرى من كتب أو تليفزيون وغيره (مع تزكية مبدأ حرمة التليفزيون وكتابات العلمانيين “الكفرة”).. الدفع بشخصيات أو مؤسسات ثقافية تبدو غير منتمية إلى الجماعة، لتلعب دورها التنظمي المنتمي للإخوان بلا حرج وبحرية في الوقت المناسب (وهو ما عبر عنه بـ “الخلايا النائمة” التي برزت خلال الفترة التالية لثورة 30 يونيو.. والبعض أطلق عليها الطابور الخامس).
وقد ساعد التنظيم الهرمي للجماعة مع شكل الأسر، في تحقيق أهدافه، وإنجاز تشكيل عقلية العضو المنتمي للجماعة.. بالأحادية الشفونية ضيقة الأفق لكل أعضاء تلك الجماعة.
* الإرهاب والإرهاب الثقافي منه
شاع مصطلح الإرهاب في العقدين الأخيرين من القرن الـ 20, يمكن القول الآن إن “الإرهاب” أصبح شكلا من أشكال الحروب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية, حيث تلاحظ أن بعض الدول تمارس الإرهاب، وليست جماعات صغيرة, كما أصبح الهدف منها ليس التأثير المؤقت المؤلم. اقترب من مصطلح “الحرب” الصريحة. والآن لم يعد الإرهاب للإعلان عن جماعة ما، أو هدف ما، أو حتى لتحقيق ألم محدد ومحدود.. اتسع المفهوم الآن.
:”الإرهاب” هو.. استخدام متعمد أو التهديد بالعنف, من قبل جماعة أو دولة.. من أجل تحقيق هدف/أهداف إستراتيجية.. أو حتى حالة من الرعب والتأثير المعنوي الذي يستتبع بالعنف.
:”الإرهاب” هو.. نوع من أنواع العنف المتعمد, تدفعه دوافع سياسية, موجه نحو أهداف غير حربية, تمارسه جماعات أو عملاء سريون لإحدى الدول. (وهو تعريف وزارة الخارجية الأميركية – في العقد التسعيني من القرن العشرين).
:”الإرهاب” هو.. القتل العمد المنظم الذي يهدد الأبرياء ويلحق بهم الأذى, بهدف خلق حالة من الذعر من شأنها أن تعمل على تحقيق غايات سياسية, لكن المشكلة.. أنه أحيانا ما توصف بعض العمليات الثورية من أجل التحرير والتغيير بصفة العمليات الإرهابية.. كما فعلت وسائل الإعلام الغربي مع العمليات الفدائية الفلسطينية. وكذلك اعتبرت حكومة “ريجان”.. “الكونترا” في نيكاراجوا مقاتلين من أجل الحرية على العكس من الاتحاد السوفييتي (في حينه) . وهو الأمر الذي يكشف البعد الأيديولوجي الكامن وراء مفاهيم وتعريفات وأشكال الإرهاب (تعريف الباحث الأميركي “كوفيل” عام 1990).
قد يتبدى “الإرهاب” كعملية متعمدة من الإيذاء المادي الصريح, لإثارة حالة من الترويع والقهر للآخر, تمارسها جماعات بهدف تحقيق هدف سياسي/أيديولوجي معين.” وقد يعبر عن نفسه في تدمير الممتلكات وتهديد الاستقرار الاجتماعي والنفسي، مع التأثير السلبي على ممارسة الحقوق والواجبات والحريات العامة، وقد تقوم به جماعات مسلحة أو منظمات سرية أو دول.
أهم عوامل الانتماء للمنظمات الإرهابية في العالم العربي هي: البطالة والفقر.. وقت الفراغ.. غياب القيم الاجتماعية.. الاضطهاد والإحساس بالظلم.. الفهم الخاطئ للدين: يعد الفهم الخاطئ بأصول العقيدة وقواعدها والجهل بمقاصد الشريعة عاملاً مهما على التطرف.
* الإرهاب الاخواني الثقافي
بدا الإرهاب الثقافي لجماعة الإخوان فاعلا نظرا لتراكم خطواته، التي تتمثل في الآتي:
.. هناك شواهد قديمة جديدة تتسم بالإرهاب الثقافي الذي عبر عن نفسه بالعنف، منها: إلقاء حمض الكبريتيك “مية نار” على الفتيات السافرات (وهي ظاهرة عرفت قبل ثورة 52).. قتل الأقلام المناهضة لأفكارهم “الكاتب “جمال فودة” والشيخ “الذهبي” (خلال الثمانينيات من القرن الماضي).. هيمنة اخوانية لأغلب الوظائف الرئيسية المفصلية للدولة خلال فترة حكم الإخوان لسنة واحدة، في الإعلام والثقافة (كما في بعض الشركات الكبرى).
.. العمل على إسقاط فكرة “الدولة المصرية” واستبدالها بإقليم مصر ضمن خلافة إسلامية مزعومة، حتى أن مرشدهم السابق قال: “طظ في مصر”.
.. قال مرشدهم “الهضيبى” في حوار حول مفهوم الدولة المدنية والدينية في الثمانينيات: “إننا نتعبد إلى الله تعالى بعمل التنظيم الخاص”.. ويعني أن هناك تنظيما خاصا يمارس العنف، وهو مصدر قوتهم، ويمثل عملهم الصالح إلى الله تعالى.
.. الاستقواء بمنظمات حقوق الإنسان العالمية، وفروعها بمصر، والكثير من تلك المنظمات المحلية.. وهو ما يثير التساؤل حول الدور الحقيقي لتلك المنظمات، مما يثير الأسئلة حول مصطلح “حقوق الإنسان” ومنظماته؟
.. طالب أحد شيوخهم “الشيخ القرضاوي” باحتلال البلاد بقوات دول أجنبية.
.. أما الإرهاب الاعلامي، فقد تمثل في اعتلاء المؤسسات الإعلامية الحكومية أو الرسمية بشخصيات منتمية إلى التنظيم، ثم باستئجار أو تقديم الرشى وغيره إلى بعض القنوات التليفزيونية التي تدلّس على المشاهد وتنشر الأكاذيب: ثمان قناة فضائية مع قناة الجزيرة، وبعض مراسلي القنوات العالمية الناطقة بالعربية لتقديم معلومات وأخبار كاذبة.
تتعدد الأسباب والشواهد لهذا الإرهاب الثقافي، ولا تكفيه تلك السطور للبحث فى كل جوانبه. وبالتالي فإن وسائل مواجهة الإرهاب، أن تتوجه الجهود إلى عين الأسباب، إلى دور فاعل للثقافة والمثقف. وهو ما لا يتعارض مع مواجهة العوامل الأخرى، ومن الداء الدواء.. فالعمل على تحسين سبل المعيشة للأفراد، وتوفير وسائل التعليم والتثقيف المعتدلة الجادة للأجيال الجديدة، مع مواجهة البرامج الإعلامية الهدامة بأخرى لتصحيح المفاهيم والتوجهات.
_______
*(ميدل ايست أونلاين)