الدراما السورية شوهت التاريخ المضيء للمرأة




*وداد جرجس سلوم

أصرت معظم مسلسلات البيئة الشامية، إن لم نقل جميعها، على تكريس صورة المرأة ضمن نموذج المرأة الجاهلة المسكينة ضعيفة الشخصية، وحصرتها في أدوار المؤامرات والمكايدات (والردح) والثرثرة والدسيسة، واختصرت حياتها على الاعتناء بشؤون المطبخ وسرير الزوجية وجلسات النميمة والشعوذة.

وإن كنا لا نشكّ في أنّ هذه النماذج من النساء كانت وما زالت موجودة في المجتمع السوري، كحال كل المجتمعات، فإن تكريس ذلك في أعمال البيئة الشامية وتضخيمه إلى درجة يخيّل للمشاهد أن هذه هي حقيقة المرأة السورية في القرن الماضي، يجعل المتابع يعتقد أنه النموذج العام للمجتمع، وهو أمر يخالف الحقيقة التي تكشف أن المرأة السورية كانت في تلك الحقبة التاريخية مناضلة بكل المعاني، مناضلة ضد الاحتلال، ومناضلة في مجال حقوقها وفي مجالات الأدب والإعلام.
قبل البدء بالمقارنة بين الدراما والواقع نبدأ بالمقارنة بين الدراما والدراما وخير مثال على ذلك شخصية “فطوم حيص بيص” التي أدتها الفنانة القديرة نجاح حفيظ في مسلسلات “صح النوم” و”حمام الهنا” وغيرها، الأنثى التي تمتعت باستقلالية تامة عن أي تحكم ذكوري، بل على العكس تماماً، فهي صاحبة “أوتيل” يعمل عندها الرجال ويخطبون ودّها، مستقلة اقتصادياً، وخياراتها في الحب والزواج لا يتدخل فيها أحد، بل أيضاً يُؤخذ برأيها ويُستمع إليه، فضلاً على أنها قادرة على التأثير وبوضوح في المجتمع الذكوري المحيط بها.
طمس التاريخ
أين المرأة في مسلسلات البيئة الشامية عن المسيرة التي قادتها النسوة في شوارع دمشق في عام 1939 احتجاجاً على سلب لواء اسكندرون، ومن مشاركة المرأة السورية كممثلة في العام 1934 في أول إنتاج سينمائي سوري الذي حمل اسم “تحت سماء الوطن” أين الدراما من النساء اللواتي أسسن الصحف المهتمة بالشأن الثقافي والاجتماعي؟! وهل تبرر الرغبة في المال وإرضاء شركات الإنتاج (بكل جنسياتها العربية) أن توصّف المرأة السورية (الدمشقية تحديداً) بالشكل الذي جاء في هذه الأعمال؟ وما الغاية من تكريس هذا النموذج إن لم يكن طمس معالم وتاريخ المجتمع السوري ما قبل حكم البعث وآل الأسد! هل يريد منتجو ومصنّعو الدراما ومن ورائهم النظام السياسي تسويق فكرة أن المجتمع السوري كان بهذا الجهل والتخلف إلى أن جاءا (البعث وآل الأسد) إلى الحكم منقذين المجتمع والإنسان وكيف تيسّر لكل هذه الكوادر (كتاب، مخرجين، ممثلين وممثلات…..) العمل ضمن سياق يسيء إلى هذه الدرجة لروح ونبض الحياة السورية في تلك الحقبة؟.
الصالونات الأدبية
لا بأس في البداية من أن نتحدث عن الصالونات الأدبية التي كانت تجمع أهم الشخصيات على مستوى الأدب والفن والسياسة عند النساء السوريات المميزات، والتي كانت سمة من سمات التحرر السوري في العقود الأولى من القرن العشرين ولعبت دوراً بارزاً في إثراء الحركة الأدبية والفنية العربية، الصالونات التي كانت بمثابة مراكز ثقافية تتناول معظم القضايا الثقافية والفكرية وتسهم في تكريس مبادئ الحوار.
وليس على سبيل الحصر وإنما في مجال التذكير لعل الذكرى تنفع كتاب ومخرجي الدراما السورية، لا ضير من المرور سريعاً على بعض التجارب النسوية السورية في مجال الصالونات الأدبية والفنية والمنتديات الفكرية والثقافية. فـ”النادي النسائي الأدبي”، ويُعرف أيضًا بـ”نادي السيدات الأدبي”، تأسس عام 1920، وساهم في تأسيسه عدد من النسوة السوريات كانت في مقدمتهن الأديبة الصحافية ماري عجمي صاحبة أول مجلة نسائية صدرت في سورية عام 1910 وهي مجلة العروس.
و”جمعية الندوة الثقافية النسائية”، التي وُلدت فكرة وإنشاءها كان سرًا عام 1936على مقاعد الدراسة أثناء دروس الفلسفة لطالبات الصف الحادي عشر في مدرسة تجهيز البنات الأولى بدمشق، وظلت تعقد اجتماعاتها السرية وتتدارس أوضاعها في منازل أعضاء الجمعية حتى أشهرت رسميا عام 1942.
أما صالون “حلقة الزهراء الأدبية ” 1946 الذي يعد أيضا من أقدم الصالونات التي عرفتها دمشق والذي أسسته السيدة زهراء زوجة محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية العربية السورية، وكانت دارها (دار رئيس الجمهورية)، مقراً لـه فقد استقطبت عددا غير قليل من الأدباء والشعراء والكتاب لإحياء عدد من الأماسي الشعرية الأدبية في أوقات ومواعيد محددة.
و”منتدى سكينة” أسسته السيدة ثريا الحافظ عام 1953 في دارها الذي أُطلق عليه اسم “دار الأمة” بحي المزرعة بدمشق تخليدا لإسم “سكينة بنت الحسين” (صاحبة أول صالون أدبي في العالم)، وفي هذا المنتدى استضافت كبار مثقفي سوريا والوطن العربي: محمد مهدي الجواهري ونازك الملائكة وعبدالسلام العجيلي ومدحت عكاشة وغادة السمان ونجاة قصّاب حسن وفخري البارودي وإبراهيم الكيلاني وميخائيل نعيمة ويوسف السباعي وفكري أباظة وحسين مروة والأخوين رحباني وفيروز.
السيف الدمشقي
كانت المرأة السورية في القرن الماضي سباقة إلى ميادين الأدب والفنون والصحافة، فالأديبة والشاعرة ماري عجمي المرأة الدمشقية الجريئة، أمسكت بالقلم ودخلت ميدان الصحافة وعملت في ميدان كان حكرا على الرجال، فأنشأت أول مجلة نسوية في سنة 1910 تحت عنوان “العروس” أقبل القراء على مجلتها آنذاك إذ وجدوا فيها مقالات وأبحاث قيّمة تعالج المشكلات الاجتماعية والتربوية، وتدعو إلى الأخذ بالعلم والوعي القومي للنساء والرجال معاً، وتطالبهم بالذود عن الوطن والتمسك باللغة العربية. وكان للمناضلة نازك العابد (1887ـ 1959) “ابنة حي الميدان الدمشقي” والتي شاركت يوسف العظمة معركة ميسلون واستحقت لقب “جان دارك الشرق” كان لها بصمة حقيقية في النهضة النسوية في سورية.
وفي مجال الصحافة، أصدرت مجلة أدبية نسائية عام 1920 تحمل اسم “نور الفيحاء” هدفها نهضة المرأة السورية. أما ألفت الأدلبي وهي من مواليد 1912 التي اقتحمت عالم الكتابة من بابه الواسع، فكتبت القصة القصيرة والرواية والمقالة وأدب الرحلات والزوايا الصحفية والأحاديث الإذاعية ، وانخرطت في نشاطات اجتماعية وثقافية، وكانت من مؤسسات “الندوة النسائية السورية” وحلقة “الزهراء الأدبية” وجمعية” الأدباء العرب”.
و”قمر كيلاني” التي ولدت عام 1932 في حي العمارة، أحد الأحياء العريقة في دمشق ومارست كتابة المقالة الصحفية الأسبوعية منذ ستينيات القرن العشرين مثيرة القضايا الإنسانية العامة، كما تناولت هموم المرأة ومحاولتها كسر الأغلال ناشدة الحرية في قصصها القصيرة، وفي رواياتها حملت الهمّ العربي، فرواية “أيام مغربية” عن المغرب، ورواية “الأشباح” تتحدث عن القضية الفلسطينية، و”بستان الكرز” عن القضية اللبنانية.
وعند ذكر سلمى الحفار الكزبري (مواليد 1922) لا بد من التذكير بالحادثة الشهيرة لها فهي المرأة التي اعترضت بشدة على كتاب بالفرنسية (فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا) يسيء إلى تاريخ العرب والإسلام، فكان أن سُحب الكتاب من جميع المدارس، وهي التي درست الأدب العربي والأدب الفرنسي واللغة الأسبانية إضافة إلى دراسة العلوم السياسية، كتبت أكثر من عشرين كتاباً باللغتين العربية والفرنسية في القصة والرواية والسيرة الذاتية، ولها أيضاً ثلاث مجموعات شعرية.
كما كانت السيدة “مقبولة الشلق”رائدة بكل معنى الكلمة، فبحسب سجلات الجامعة السورية هي أول فتاة تنال شهادة في الحقوق عام 1941، ولدت عام 1921 في كنف أسرة دمشقية، وكانت من أوائل النساء اللاتي شاركن في أول مظاهرة نسائية خرجت في شوارع دمشق، نشرت قصصها ومقالاتها في البدايات باسم مستعارهو( فتاة قاسيون)، وفيما بعد نشر إنتاجها الأدبي في الصحف والمجلات السورية والعربية.
الواقع المر
لا بد من العودة إلى الدراما لنقول أين مسلسل “صبايا” بأجزائه الخمسة وصباياه، بعيشهم الرغيد في منازل كالقصور وسيارات أشبه بالحلم وأيامهم الموزعة بين آخر صرعات الموضة والمكياج ورحلات الترفيه والتسوق وهمومهم المنحصرة في “الشفط والنفخ”. أين هم من زهرات سوريا الحقيقة اللاتي استُشهدن واعتُقلن وشوَّهت القذائف الغادرة وجوههن وقطعت أوصالهن، أين أنتم من نساء سوريا الواقع المر، الأرملة واليتيمة والثكلى، النازحة والمهجّرة التي جارت عليها الأيام بعد سنوات من الكرامة والعزة.
______
*(العرب ) اللندنية

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *