الروايـة تـولد والمـؤلف يمـوت


*ترجمة: عباس محسن

توفي كاتب الخيال العلمي الأسكتلندي أيان بانكس (1954- 2013) أياما قليلة قبل ظهور روايته الأخيرة The ” Quarry ” – مقلع الحجر- نهاية الشهر الماضي. وكان الصحفي ستيوارت كيلي قد أجرى حوارا مع هذا المبدع لصحيفة الغارديان حول كتاباته ومواقفه السياسة ونشره يوم السبت 15 يونيو2013. ونظرا إلى أهمية ما جاء في هذا الحوار، ارتأت العرب تقديم بعض مقاطعه المتّصلة بروايته الأخيرة…

“ربما يكون هذا ظهوري الإعلامي الأخير” بهذه العبارة، بدأ أيان بانكس، الذي كتب 29 مؤلَّفا، حواره مع الغارديان منوّها بأنه كان “مسروقاً من قبل الوقت طيلة 30 عاماً”. يُذكر أنه ما إن علم باستشراء المرض العضال في جسده منذ أفريل الماضي، حتى راح ينتصر على مخاوفه من الموت، بل والاعتراف بحقيقة مرضه قائلا: “أنا وبشكل عملي أقول ان حالتي الصحية سيئة جداً”، وقد ذُكر عنه أنه طلب إلى صديقته “أديل هارتلي” بأن: “امنحيني الشرف بأن تصبحي أرملتي!!”.
رواية الحلم
وحول ميله إلى كتابة روايات الخيال العلمي، يقول بانكس: “أستمتع بكتابة روايات الخيال العلمي، أكثر من الروايات الأدبية أو الروايات ذات الطابع الثقافي. لأنها تمنح قراءها التلذّذ بمغامراتها، وتنهض على كثير من التوثيق، وتقوم على الندرة المطلقة، بل هي قطاري المهيأ للانطلاق.
أنا اعشق الحرية ، الحرية المطالب بها دوماً على الرغم من أن الكتابة عنها تتطلب درجة كبيرة من التركيز، هناك الكثير من المتع المصاحبة للثقافة الحالية والتي يمكن إيجادها في كل رواية جديدة توضع في قائمة التاريخ الثقافي المتأخر.
ليس لدي توق إلى الكتابة بأسلوب مغاير لما قد بدأت به من قبل، ليس لدي رغبة في ربط كل شيء بالثقافة التي لها محمولات محدودة وثابتة للاحتفاظ باستمراريتها على غرار رفض التصعيد الدرامي أو اختفاء مواقف الكاتب، لذا أعتقد أنه من السهولة بمكان أن أقول إن رواية الخيال العلمي تمكّننا من إنجاز ما نحلم به ونعجز عن تنفيذه، وبهذا يبدو الأمر سهلاً جداً بالنسبة إليّ”.
تروم روايات بانكس، بفضل ما فيها من تقنيات الفانتازيا والخوارقية، دحضَ انتظارات قارئها ورجرجة قناعاته، من ذلك ما نُلفي في بعض رواياته من فنون سردية تميل إلى العجائبية في “مصنع الدبور”، وإلى وفرة الأحداث ذات الأسلوب القوطي في رواية “طريق الغراب”، و إلى البنائية الباروكية في “حجر الفم”، وكلّ ذلك ضمن أسلوب حكائي يدفع إلى الاستزادة من كلّ حدث مرويّ.
وفي الشأن يقول بانكس: “المشكلة في كتابة الأسلوب القصصي الخيالي هي حجم ذاك الإحساس بالتغاير الذي يتملكك ويتجلّى في الفرق بين ما تكتب وبين طبيعة وقائع معيش الناس. إنه تغاير ومفارقة يشعراننا أحيانا بالانزعاج من لحظة الكتابة. حيث تقضي الكثير من الوقت وأنت تقرر كم هو صعب تحفيز إعجاب القارئ بما نكنت خاصة وأنت تعرف قدرته على عدم تصديق كتاباتنا. ولكن القارئ سينتبه إلى أن في رواية الخيال العلمي واقع آخر سهل وجذّاب ومدبّر بشكل فني جيّد. أنا احاول أن أحمل القارئ بعيدا جدّا في التخييل”.
الذهاب بعيدا
عن روايته الجديدة “مقلع الحجر” المنشورة قبيل وفاته، يقول بانكس: “هي رواية واقعية، وإن أردت إنصافها أقول إنها رواية بسيطة لا تحتوي على الكثير من الشخوص، وخالية من الارتجاعات السردية، وأحداثها غير محتشدة بشكل كبير. وإذا ما علمت أنها سوف تكون روايتي الأخيرة، فسأقبل بحقيقة أنها عمل ثانوي، ومع ذلك فإنّ الرواية تنهض على فكرة الانتقال (Transition) والاختلاف الشاسع للفنتازيات، بل هي تؤالف بين الخيال العلمي والواقع المجنون معاً. وهو أمر ستميل إليه الروايات الجديدة التي ستخرج للقراء. وسأبقى فخوراً بـ “مقلع الحجر” التي أراها عكس الواقع حيث هي منفتحة على المرح الكبير”.
يشار إلى أنّ رواية “مقلع الحجر” عمل نضج بشكل نموذجي ومبكر، ومليء بإنعدام العاطفة وببعض الشراسة، وفيه مخالفة واضحة لأسلوب بانكس السردي المألوف، حيث نُلفي تخفّف الكاتب من ميله إلى السرد الخيالي والتركيز على الواقع عبر توصيف مغامرة البطل “غاي” الذي يعيش مع والده، في بيت خرب على حافة مقلع للحجر، أين يلتقي بأصدقائه ويسعون إلى إيجاد مقطع فيديو لفلم أنتجوه سوياً في أيام الدراسة الجامعية يمكن المساومة عليه مع عدد من الأشخاص، غير أنّ هذا البطل يكتشف أنه مصاب بمرض سرطان الأطراف ، فيكتب رواية ثم يموت. وأثناء ذلك نسمعه يقول: “رباه، لقد قاربت على إنهاء الكتاب عندما اكتشفت، أن امراً غريباً جداً سيحصل”.
وهي جملة فيها كثير من الصدق والحيرة، لأن الرواية تتمحور بالفعل حول هذا الموضوع. ثم يضيف قوله: “لا شيء قد تغير بسبب الأخبار السيئة التي وصلتني عن حالتي المرضية”. وهو أمر شبيه بحالة بانكس، كاتب الرواية، حيث نلفيه يقول: “انتابني الاعتقاد في أن كل شيء صار على ما يرام ما عدا أني أشعر بألم في ظهري، وبشرتي صارت تبدو ذات شكل مضحك . فقد اخبرني الطبيب أن لدي أشهر معدودة لأبقى على قيد الحياة.
في ذلك الوقت كتب 90 ٪ من الرواية: 87,000 كلمة من أصل 97,000 ، لحسن الحظ ، حتى إني قد أنجزت كلماتي لذلك اليوم، فقد اصطحبت معي جهاز اللابتوب في المستشفى في مدينة كيركالدي ، وعندما أخبرت بنتيجة التشخيص ، كتبت قليلا من الكلمات، منها قول غاي: “لم أعد خائب الأمل لأترككم كلكم أيها اللقطاء ورائي”، ويضيف بانكس قائلا: “إنه أمر مبالغ فيه، بل فيه مغالاة لمّا علمتٌ به.
كان مجرد أفكار تطفو، لقد تساءلتُ كيف لي استخدام هذا الجانب من التأثير السلبي في الرواية؟ لأني كنت أشعر بضربات وركل من الداخل، من داخل أحشائي، لذا فكرت في أن أمنح غاي لغة منمقة قديمة وجيدة ، مثلاً أن أجعله يقول: هذا الأمر حقيقي بالنسبة إليّ، يمكنني الذهاب بعيداً مع أي شيء”.
يقول الصحفي في خاتمة حواره المنشور بالغارديان: “لقد حان الموعد وانتهت المقابلة مع بانكس، غير أني كنت مرتبكا وهو يقول لي: “أراك قريباً”، قال هذه الجملة وهو مليء بالثقة”.
_______
*(العرب) اللندنية.

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *