*عبد الباقـي يوســف
تحول فرانز كافكا في التاريخ الروائي إلى رمز للتشاؤم ، نظراً لأن جل ما أبدع هذا الروائي يتطبع بطابع التشاؤم والسوداوية .
وهذا ما جعل نتاجه يحتل مرتبة متقدمة لثورة التأويل والنقد والدرس حتى أمسى كافكا ذاته مدرسة روائية بحدّ ذاتها .
في كثير من المناسبات والمؤتمرات والندوات تحدثت عن خصوصية نتاج كافكا ، وفي كل كتابة أجد شيئاً جديداً أقوله عن كافكا ، فكل إعادة قراءة لإبداعاته تأتي بإضاءات جديدة ، بل كل إعادة تفكير في عمل من أعماله يقدم تأويلاً واكتشافا جديداً .
إن ذلك ينبع من الغنى الفكري الذي يتسم به كافكا برغم ثقافته المتواضعة ، ذلك أن كافكا انطلق من صميم الموهبة ، ومن اتقاد قبسة النبوغ في تكوينه الذهني والنفسي ، بحيث كان هذا الرجل كتلة متوهجة من الحساسية المرهفة .
ما يميز تاريخ فرانز كافكا الأدبي هو أنه عاش حياته القصيرة في عزلة شبه تامة عن العالم ، وحتى عن المجتمع والمقرّبين منه .
استطاع أن يبني عالمه الروائي لبنة لبنة بخصوصية رسخته كأهم روائيي العالم الذين تركوا أثرا على مختلف الأجيال الروائية من بعده .
فلسفة رواية المسخ
يبلغ التشاؤم حدّاً بكافكا يصور فيه الإنسان بأنه يتحول في بعض مراحله إلى كائن ممسوخ ، فيصور حال هذا الإنسان الذي يفقد مشاعر الانتماء إلى المجتمع الذي يعيش في ظهرانيه .
إن غريغوار سمسا بطل راويته الشهيرة / المسخ / وهو المعني بهذا الكلام يموت بصمت وحب وبطريقة محببة إلى قلبه .. يموت بالطريقة التي يختارها لنفسه في مشهد الأمتع والأقسى في لحظة واحدة . يروي كافكا هذه التفاصيل : ” فكر غريغور وعاد لمتابعة عمله . لم يستطع قمع لهاثه من الجهد , ومن وقت لآخر كان عليه أن يستريح , ومن ناحية أخرى لم يقنعه أحد , إذ تركه وشأنه تماما .. وحين أنهى الاستدارة , بدأ الزحف فورا ولم يستطع أن يفهم البتة , نظرا لضعفه كيف قطع ذات المسافة بهنيهة قصيرة سابقا دون أن يدرك ذلك لم تقاطعه كلمة أو هتاف من عائلته . أدار رأسه حين كان في المدخل فقط ـ ليس بشكل كامل , فقد أحس برقبته متيبسة , ومع ذلك ظل يرى أن لا شيء تبدل خلفه غير أن أخته نهضت . طافت نظرته الأخيرة بأمه , التي كانت مستغرقة في نوم عميق الآن .. والآن ؟ .. سأل غريغور نفسه وهو ينظر في الظلمة حوله .. وللحال اكتشف أنه لم يعد بإمكانه التحرك إطلاقا لم يفاجئه ذلك بل بد من غير الطبيعي أنه كان قادرا حتى الآن فعلا على دفع نفسه على هذه السيقان الصغيرة الرفيعة . وأحس من جهة ثانية بارتياح نسبي كان يشعر بالألم في كل أنحاء جسده , لكن بداله أنه كان يذوي ويذوي تدريجيا وسوف يذهب في النهاية كليا . قد تكون قناعته بضرورة اختفائه ارسخ حتى من قناعته بضرورة اختفائه أرسخ حتى من قناعة أخته , وظل في هذه الحالة من التفكير الفارغ والآمن حتى دقت ساعة البرج معلنة الثالثة صباحا وظل يرى أن كل شيء خارج النافذة كان قد بدأ يزداد ضوءً ثم , دون موافقته , غطس رأسه على الأرض وتجدلت من منخزيه آخر أنفاسه الضعيفة ” .
لقد مات غريغور سمسا وهذا الموت يعني الشيء الكثير لفرانز كافكا أنه يعني له الحياة لقد انتحر فرانز كافكا حينما قتل غريغوار ولو لم يمت غريغوار لأقدم فرانز كافكا نفسه على الانتحار بنفس طريقة انتحار بطله في هذا العمل الذي يعد من أهم الأعمال التي أبدعها .. فقد أنقذه غريغوار من الانتحار قال كافكا ذات يوم : ” لقد عانيت طوال حياتي وأنا أتهرب من الانتحار ” نلاحظ بأن جميع أبطاله يموتون .. أجل يموتون حتى يبقى كافكا حيا .. لا أحد لديه لا يموت كلهم يموتون .. أنه يقتلهم جميعا .. في مستوطنة العقاب وتحريات كلب ـ والقصر ـ والقضية ـ والمحاكمة .. والمسخ ولكن لماذا هذا الموت .. هل ليعيش فرانز .. بالطبع لا .. لأن فرانز يمقت الحياة وبنفس الوقت يبحث عن العدل الاجتماعي في الحياة ذاتها .. واستطع أن أرى بأن جميع هؤلاء كانوا يمهدون لموته في الوقت الذي يؤجلون فيه هذا الموت لذلك يدخل فرانز كافكا إلى أعماق شخوصه قبل الموت بلحظات أنه يصور أدق وأخفى المشاعر التي تسيطر على الشخص الذي سيموت أو سيقتل أو سينتحر بعد لحظات قليلة فقط .. وقد تعمدت أن انقل مشهد الانتحار كاملا برغم اطالته بعض الشيء في رواية ” المسخ ” قبل قليل وما يجعلني مقتنعا بنظرتي هو التصاق كافكا بهؤلاء حتى أنه يوهم أحيانا بأن البطل هو الكاتب نفسه عندما يعطيه حرف ( ك ) الحرف الأول من ( كافكا ) وغريغور نفسه لا يختلف عن فرانز كافكا فكلاهما يعملان في التوظيف في إحدى الدوائر وكلاهما يفكران بطريقة واحدة وينظران إلى المجتمع نظرة متقاربة .
في المسخ يعاني غريغور من تسلط والده .. هذا الوالد القاسي الذي يصر على ضربه حتى بعد عملية المسخ ويسعى إلى طريقة للتخلص منه ويقول فرانز كافكا ذاته في إحدى رسائله الموجهة إلى أبيه :
” أنت المقصود بكل كتاباتي , أنا أشكو مما لم أستطع أشكوه لك وأنا على صدرك ” إنه انتقام بطريقة غير مباشرة ولسوء حظ السيد هرمان أنه أنجب ولدا مثل فرانز .. هذا الولد الذي سيجعل لعنة العالم بأسره تحل عليه كل يوم وبالرغم من كل هذا الحقد يأتي التصريح التاريخي على لسان هذه الضحية : ومع ذلك , فقد أحببتكم على الدوام يا أبوي العزيزين ” .
أعود هنا إلى مذكرات كافكا ، وفي إ حداها يوضح لصديقه ماكس برود بعض الأفكار ، ثم يطلب منه أن يضيف هذه الجملة الجديدة وهي مؤرخة في 13 ديسمبر عام 1914 حيث يضيف كافكا :
/ لقد نسيت أن أضيف , وتقصدت هذا النسيان فيما بعد , أن خير ما كتبته له دوافعه في قابليتي لأن أستطيع الموت مسرورا وفي جميع هذه المقاطع الجيدة المتسمة بالإقناع القوي , كان المقصود على الدوام شخصا يموت ويجد أن الموت صعب , وإنه ظلم , أو في الأقل نوع من القسوة يقع عليه , مما يجعل ذلك في رأيي في الأقل يؤثر في القارئ .
أما بالنسبة إلي , أنا الذي اعتقد إني سأكون مسرورا على سرير الموت , فإن مثل هذه الأوصاف لا تشكل أكثر من لعبة خطيرة خفيفة , لهذا السبب أستغل بدقة انتباه القارئ المركز على الموت , فأنا في حالة فكرية تفوق صفاء , وأحسب أنه سيشكو على سرير الموت أما أنا فشكواي ستكون والحالة هذه أكمل شكوى ممكنة لأنها لن تتفجر في فجاءة الشكوى الواقعية . بل ستتم في جو من الجمال والصفاء.
واضح أن فرانز كافكا كان حقا يعيش الموت منذ اليوم الأول من ولادته .. لقد تخلى عن الحياة كلها .. وكان بمقدوره أن يستمتع بملذات الحياة لو شاء ذلك ولو لم يعد نفسه ميتا ومن هذه النقطة تبدأ خصوصيته وقد تكون هذه النقطة مصدر سعادته أيضا فهو كما سبق يعيش دون أي أمل وذلك خير نمط للحياة .. وهو سعيد ليست تلك السعادة بالمفهوم المتعارف عليه ولكنها سعادة لا يتذوقها إلا كافكا وحده .. إنها النكهة التي لا يتذوقها إلا من بلغ به الحزن ذروته ومن توصل إلى قمة الضياع واللاجدوى هذه هي أرضية كافكا التي ينطلق منها . هذه هي ثقافته . وهو كما يتضح قارئ سيئ . وكسول وفي الأغلب يكتب أكثر مما يقرأ .. وليست ثمة مقولات أو شواهد تستحق أن تشير إلى أنه كان نهم القراءة .. كما هو لم يتأثر بكاتب من قبله وما نستنتجه من إبداعاته هو أنه على اطلاع جيد للعهدين القديم والجديد وهذا ما وفره له جو البيت بسبب تدين والده وعليه فإن معظم أعمال كافكا تطرح موضوع الموت من منطلق ديني .. إنه في الأغلب يبحث عن الإله الذي لا يشك بوجوده ولكنه لا يراه .. يبدو ذلك في قصة ” المحاكمة ” وهي باختصار تدل على قلقه على مصيره . لذلك يبحث عن الحقيقة بالكتابة .. بالكتابة فحسب وليس بالقراءة .. ” الكتابة ” التي تريه مشهد الموت وتكشف أمامه بعض الألغاز .. أنه يتعامل مع الموت بدقة مذهلة . يقول كافكا : / أن الإشارة الأولى لبداية المعرفة هي الرغبة في الموت .. فهذه الحياة لا تحتمل والحياة الأخرى ليست في متناول يدنا ولذا فإننا لا نخجل من رغبتنا في الموت / . إنه نص صريح ومباشر أكثر من أي نص آخر ورد على لسانه .. الموت كموضوع أول وأخير للكتابة إنه هاجس أبدي .. ولم يسبق لكافكا أن كتب عن غير الموت .. ولا نلمس بريقا للأمل في معظم كتاباته ورسائله ومذكراته على العكس تماما من البير كامو الذي يرى في الموت نهاية كل شيء ولا يعقد أي أمل خارج إطار الحياة .. إن السر كله يكمن في عملية الموت بالنسبة لكافكا هل الإنسان ميت في الحياة وإنه يعيش في الموت إنسانا فهم كلمة ( الموت ) وهنا نستطيع أن نحكم بأن مفهوم كافكا للموت أوعى بكثير من مفهوم البير كامو إليه وأوسع من مفهومه وأشمل وربما أدق .. والكتابة وحدها تعينه لمواصلة هذا البحث عن شرح أوضح لمفهوم الموت ولمعنى الموت .. فلولا الكتابة لما استطاع كافكا أن يعيش أربعين سنة متواصلة .. والكتابة تضمن له البقاء والبقاء ليس بمفهوم خلود الأثر الأدبي كما شائع .
وإنما بقاء كافكا ذاته أثناء وجوده في المجتمع وهو لا يؤمن بخلود الاثر الأدبي .. ولا يهمه ذلك وقد أوصى صديقه ماكس برود أن يحرق جميع كتاباته ، لكن الصديق لم يعمل بالوصية ، ونشر كل هذه المؤلفات المودعة لديه بعد وفاة فرانز كافكا ، وذلك حتى يقدم خدمة لصديقه وينشر آثاره التي سوف تخلده .
هنا لابد من دخول بيت كافكا والتعرف على جوهر علاقته بأسرته ، والحقيقة فقد ترك كافكا من ضمن ما ترك من آثار ، رسالة موجهة إلى أبيه ، يقول في أجزاء منها :
الوالد الأعز، سألتني مرة، مؤخراً لماذا أدّعي أنني أخاف منك, ولم أعرف كالعادة أن أجيبك بشيء من طرف بسبب هذا الخوف نفسه الذي استشعره أمامك، ومن طرف لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمّعه إلى حدّ ما في الكلام وعندما أحاول هنا أن أجيبك كتابة، فلن يكون الأمر إلا ناقصا كل النقص، وذلك لأن الخوف ونتائجه يعيقني إزاءك في الكتابة أيضا، ولأن حجم الموضوع يتجاوز ذاكرتي وعقلي كثيراً، أما بالنسبة لك ،فإن المسألة كانت دائماً في غاية البساطة في الأقل عندما كنت تتحدث عن ذلك أمامي وأمام آخرين كثيرين دون أن تنتقيهم .
يسرد كافكا من جملة ما يسرده الحادث التالي في رسالته الخاصة الموجهة إلى أبيه : واقعة من السنوات الأولى ، ربما تذكرها أنت أيضا, كنت أبكي ذات مرة في الليل استعطف واستعطف جرعة ماء، ليس عطشا بالتأكيد، وإنما على الأرجح كي أثير إزعاجا من طرف ، وأتسلى من طرف آخر, إذ لم تنفع عدة تهديدات شديدة أخذتني من السرير، وحملتني إلى الشرفة وتركتني هناك وحيدا أمام الباب المغلق فترة وجيزة ، وأنا أرتدي القميص الداخلي .
_______
*(المدى)