*عبد السادة جبار
التاريخ يضم في طياته وقائع مثيرة تسترعي البحث والغوص في تفاصيلها لمعرفة تلك التفاعلات بين العناصر التي أنتجت مركبات معقدة تطلبت جهوداً إنسانية صعبة لمعالجتها وتصحيح انحرافاتها المريعة من أجل أن تحقق الإنسانية أهدافها السامية بعد نضال دامٍ نهض به الأنبياء والمصلحون والرافضون والمستضعفون أمام الجلادين حيث وصلتنا وثائق البطولات، والظلامات، والانتكاسات، والانجازات، كانت مادتها الإنسان نفسه الذي يتناظر مع أخيه الإنسان بيولوجياً وفسلجياً إلا إن تلك التفاعلات الغريبة التي تقع في تلك الحجرة العظمية الصغيرة والتي تسمى الجمجمة هي السبب وراء تلك التناقضات الهائلة والمريعة بين إنسان و إنسان آخر، الإمبراطور الروماني ( كاليجولا ) واحد من تلك الشخصيات الظلامية التي كانت مثيرة للاهتمام وكانت لغزاً للبعض علماً إن مرحلة تنصيبه كإمبراطور على روما لم تكن طويلة فقط أربع سنوات من 37م إلى 41م إلا أن تلك الفترة حولت الحياة في روما إلى جحيم لم يطل عامة الناس فقط بل أقرب الناس للإمبراطور، مجلس الشيوخ النبلاء القادة المصاهرون الزوجات الأخوات، تحولت هذه الشخصية إلى رمز للتعسف والدكتاتورية والشذوذ والانحلال والخوف وكتبت أعمال أدبية لترمز إلى امتدادات الشخصية في الزمن المعاصر متجسدة بشخصيات معاصرة كان أهم تلك الأعمال مسرحية الكاتب الفرنسي “ الببر كامو “ المسماة ( كاليجولا )، الاسم الحقيقي للإمبراطور “كايوس جرمانيكوس “ لكن والده كان قائداً عسكرياً لجيوش روما في الشمال فكان يلبسه بدلة عسكرية ويصطحبه معه فلقب بكاليجولا أي الجندي الصغير وترجمت الحذاء الصغير في الفيلم، كايوس كان الابن الأصغر لتلك العائلة التي تنحدر من أصول إمبراطورية إذ يعود نسبها إلى الإمبراطور الأول ( اوكتافيوس أغسطس ). كان الأب قائداً محنكاً ومحبوباً إلا أن الأم كانت متعجرفة ومتكبرة تعتقد إن العرش تستحقه أسرتها، خشي الإمبراطور (تيباروس) الحاكم آنذاك من تلك العائلة الطموحة فقرر التخلص أولاً من الأب ليقتله بالسم، وعندما شعر بتحركات الأم المريبة قام بقتلها وأجبر ولديها على الانتحار ولم يبق إلا كاليجولا إذ كان مريضاً ونحيلاً وليس له من يسنده حيث عاش مع جدته، لكن القدر يلعب لعبته ويقتل كل المقربين المرشحين لتسلم زمام الحكم بعده ولم يبق إلا صبي صغير “جميليوس” غير مؤهل، فلم يجد تيباروس إلا أن يستدعي كاليجولا ليكون بمنزلة ولي عهد وهكذا تبتسم الأقدار لهذا الشاب النحيل المتردد والذي عاش مع قاتل عائلته صابراً منتظراً الفرصة ليقفز إلى عرش روما، ولم يكن تيباروس محبوباً من الشعب وحتى المقربين فلم ينتظر طويلاً إذ تم خنق الإمبراطور بمساعدة قائد الحرس الملكي وانتزاع الخاتم من إصبعه لينصب كاليجولا وهو بعمر الـ 24عاماً .
سيناريو الفيلم
أنتج الفيلم بمساهمة أميركية – ايطالية، لكن الانجاز كان بجهود ايطالية انجليزية إضافة للأميركية، كتب السيناريو غور فيدال، بوب جوتشيوني، جيانكارلو لوي، كانت الأدوار الرئيسة للممثل الانجليزي البارع (مالكولم ماكدويل ) بدور كاليجولا، والممثل الكبير( بيتر اوتول ) بدور الإمبراطور تيباروس، والممثلة ( آن تيريزا سافوي ) بدور الشقيقة – الحبيبة دورسيلا، الإخراج أسهم فيه ثلاثة مخرجين، تينتو براس، بوب جوتشيوني، جيانكارلو لوي، لكن العنصر الحاسم في العمل هو تينتو براس والفيلم يكشف بصمات هذا المخرج الشهير بأفلام الايروتيكا الايطالية، يتجاوز سيناريو الفيلم بدايات حياة كاليجولا وحياة عائلته، ويبدأ من مرحلة وجوده مع تيباروس قريباً من مركز الإمبراطورية، لكنه يكشف مباشرة عن تلك الشخصية الشاذة والمنحرفة من خلال طبيعة العلاقة التي تربطه بشقيقته، لكنه يخيفها عند وجوده إلى جانب الإمبراطور، إذ يساعده ويؤيده في ظلمه وتعسفه ورغباته ويتناسى هلاك عائلته على يد تيباروس ليصل إلى الحكم بمساعدة ماركو، تحتفل روما بنهاية الظلم وصعود هذا الشاب الطيب إلى الحكم وتنتعش روما ويحظى الجميع بفسحة واسعة من الحرية وتزدهر الألعاب والمسارح وتلغى المحاكم وترفع الضرائب الكبيرة عن النبلاء والأغنياء حتى يطمئن الجميع لهذا الإمبراطور فيمنح عن طريق مجلس الشيوخ الصلاحيات المطلقة، لكن مرحلة فاصلة بين هذا السلوك وآخر جاء بعد أن أصيب بمرض شديد سبب حزناً للجميع كانوا يدعون لشفائه لكن نجاته من الموت كانت كارثة على روما، فقد بدا بنشر الرعب بين أقرب الناس إليه، وبدا يبرر سلوكه هذا بمنطق شاذ وغريب، أجبر الأثرياء على دفع أموال كبيرة وفرض عليهم أن يكتبوا حق الإرث للإمبراطورية لا للورثة، كما أجرى تطهيراً لمجلس الشيوخ واتهمهم بمساعدة تيباروس على تصفية عائلته، قتل ماركو رئيس الحرس والذي ساعده على اغتصاب الحكم بطريقة بشعة، مثلما قتل الصبي جميليوس الوريث الشرعي، أنفق بإسراف من أموال الإمبراطورية على متعه الخاصة، اخترع طرقاً جديدة للتعذيب لم تكن معروفة من قبل، منها الموت البطيء بطعنات متكررة ومتباعدة بمناطق غير قاتلة بشكل مباشر ليشعر المتهمون والسجناء بالعذاب، الدفن حد الرقبة والتسلي برجم الرأس بالحجارة، قطع اللسان، إحضار ذوي الضحايا لمشاهدة صراخهم وأنينهم، كان يستل الموافقة من مجلس الشيوخ وينفذ رغباته الشاذة مما زاد الآخرين رعباً، ثم بدا يسخر من المجلس نفسه حيث نصب حصانه عضواً في المجلس، عقب ذلك أجاز للعبيد أن يمارسوا الجنس مع زوجات الأعضاء مقابل مبلغ بسيط، لم يكن ثمة من يجرؤ على معارضته ومع ذلك كان يخاف الليل ويرتعب من الخفافيش، كان يقضي ليله متجولاً في القصر خائفاً مرتعباً بانتظار النهار ليمارس القتل والشذوذ، وهكذا فقد الجميع وفقد شقيقته اذ مرضت وماتت ليزداد جنونه ثم ينتهي الأمر به بالقتل من حرسه الخاص إذ يطعن ثلاثين طعنة ويقتل طفله وزوجته معه.
المعالجة
من الصعب المقارنة بين المسرحية التي كتبها كامو وبين الفيلم، لأن كامو كان فيلسوفاً ومفكراً وثمة فرق كبير بينه وبين مخرج أفلام الايروتيكا الايطالي تينتو براس؛ فهذا الرجل أراد أن يقدم وثيقة تاريخية وليس رؤية تاريخية كما فعل كامو، ولا يمكننا الاستغناء عن الاتجاهين، ولد براس في فينيسيا عام 1933 وبدأ شوطه الفني مع مخرجين كبار أمثال فدريكو فيلليني وروبرتو روسيليني في الخمسينيات والستينييات الا انه اختار طريقاً خاصاً به، إذ قدم 48 فيلماً قد لا نحظى منها إلا بأربعة أو خمسة أفلام تحمل قيمة فنية مميزة فنحن نذكر له فيلم( المفتاح ) وفيلم ( ميرندا ) وفيلم ( صالون كيتي )، وأراد أن يقدم( كاليجولا ) 1979 هذه الشخصية كما هي من دون فكر أو فلسفة أو غوص في أعماقها ومركبات الشذوذ التي تحملها، كامو أراد أن يقول إن امتدادات كاليجولا لم تزل ويمكن أن تظهر في أي وقت باختلاف الأساليب، و”براس” ربما لم يحذر لكنه تمكن من أن يرسم التسلسل الطبيعي لطغيان هذه الشخصية ورسم بواقعية الشخصيات التي تساعد على هذا الطغيان من خلال سكوتها وجبنها ومصالحها حتى تصل الاهانة والتعسف محيطها، فهي التي تصنع الصنم وهي التي تخنع لتحكمه، وليس ثمة أبطال في روما أو مصلحون وحتى الزمرة التي طعنته كانت مرتبكة ومضطربة لم تكن واثقة من موته بسبب تراكم الخوف والهلع الذي تملكهم خلال فترة حكمه القصيرة، كان الفيلم وثيقة مهمة قدمت بصدق، تمكن براس أيضاً من سرد هذه المرحلة التاريخية ضمن أجوائها بمناظر قليلة لكنها مكثفة كما رسم حدود المكان بمساحة مسرحية في أغلب الأحداث، إلا انه بالغ كثيراً في المشاهد الإباحية والتي سببت ضياع هذا العمل التاريخي المميز، لكن الفيلم لابد أن يشاهد ولكن ليس لأكثر من مرة لفهم الوثيقة على عكس المسرحية، وقد كان لمالكولم ماكدويل دور كبير في الفيلم فقد كان مقنعاً تماماً، كونه رسم الشخصية الغامضة، المرعبة، والمريضة، والشاذة في آن واحد بأداء مذهل، وكذلك الممثل البارع بيتر أوتول والممثلة آن تيريزا سافوي.
فيلم CALIGULA، تمثيل: مالكولم ماكدويل، بيتر اوتول، آن تيريزا سافوي
سيناريو: غور فيدال، بوب جوتشيوني، جيانكارلو لوي
إخراج: تينتو براس
_______
*(الصباح الجديد)