الحِداد يليق بنا


*يوسف ضمرة

عندما أستعرض ما ورد من عناوين تبدأ بـ«الحداد يليق ب.. »، أكتشف أن الحداد عند الكتاب في العالم كلهم ـ لا عند العرب وحدهم ـ ليس مجرد لفظة عابرة أو عادية كغيرها. فهنالك «الحداد يليق بإلكترا» ليوجين أونيل، و«الحداد يليق بأنتيغون» لرياض عصمت. و«الحداد يليق بقطر الندى» للشاعر أمل دنقل. و« الحداد يليق بحيفا» للشاعر محمد القيسي. وربما هنالك ما لا أتذكره من الحداد!

بالنسبة للغرب فقد بنى أونيل مسرحيته على عزلة الذات التي قد تؤدي إلى الموت. وهو أمر طبيعي في مجتمع أصبحت علاقة الناس بعضهم ببعض موسومة بالهشاشة أو بالتحفظ الصارم، وربما كان الحلم الغربي القائم على تميز الفرد سبباً في ذلك. والتركيز على تميز الفرد ليس جديداً بالطبع، فقد ركز عالم الاجتماع الشهير «ماكس فيبر» في نظريته على دور الفرد المتميز في مسار التطورات والتغييرات الاجتماعية، كما كان للحلم الأمريكي دوره البارز في هذه العزلة.
لكن الكتاب والشعراء العرب اتخذوا من «الحداد» سمة يمكن إطلاقها على المجتمعات العربية، وما حل بها من خراب منذ ما قبل اغتصاب فلسطين.
لقد خسرنا حروباً كثيرة لم نخضها، وفقدنا بلادا عزيزة لم نصنها، وها نحن اليوم نكمل مشوار تدمير الذات بما نفعله في بلادنا. فهل ثمة ما يمكن أن يسم حياتنا أكثر من «الحداد»؟
يحضرني هذا الكلام وأنا أراقب ما يحدث في بلادنا من هدم مجاني لا يضع أسساً للبناء الأجمل والأفضل. وصار من البديهي أن نقول الآن «الحداد يليق بنا».
كان المتنبي ربما يتحدث عن نفسه أو لنقل رؤيته للعيد حين قال: عيد بأية حال عدت يا عيدُ؟
فهو قول ينطوي على فلسفة وجودية. وهو يذكرنا بنشيد الجامعة في «التوراة» حين بدا له كل شيء باطل الأباطيل وقبض الريح ولا جديد تحت الشمس. وهو نشيد يمكن اعتباره اللبنة الأولى في الوجودية قبل هيدغر وسارتر وكامو وغيرهم. كان المتنبي يتساءل: بأمر مضى أم لشيء فيك تجديدُ.. كان يتساءل مستنكراً، لأنه أدرك أن الزمن يمر على المرء، وقد يحمل معه بعض المتغيرات الاجتماعية والشخصية، لكنه في النهاية زمن يمتلك سطوة إنهاء كل شيء فجأة أو على مهل من دون استشارة أحد. ربما يثرى البعض أو يفرح في العيد، لكنه يدرك في أعماقه أن هذا كله زائل وقبض الريح وباطل الأباطيل.
لكننا اليوم نردد بيت المتنبي ونحن أكثر قلقاً وتوتراً، لا بسبب ما ندركه من نهائية الزمن البشري، وإنما لما نعانيه من ألم وأسى وحزن وجروح غائرة في العمق. أجل يليق بنا الحداد لأننا استمرأنا المازوشية الجمعية في بلادنا، وارتضينا أن نشكّل للأجيال المقبلة تشوهات مرعبة لن تبرأ منها في زمن قصير أو بسهولة ويسر.
سوف يأتي اليوم الذي نجد المزيد من العناوين في الأدب العربي، العناوين التي تبدأ بالحداد، لأن وقتاً طويلاً سيمر ونحن نحيا هذا الحداد، وأجيالنا القادمة تتشربه منذ الآن، وقد جُلّلت قلوبها بالسواد!
________
*(الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *