الأوطان ملح الكتابة


*أمير تاج السر

في مقال له يقول أحد الدارسين الغربيين -وقد انبهر بأدب الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي، وقام بزيارته بالفعل في طوكيو ليقترب من عالمه أكثر- إن ما يميز موراكامي، ليس سعة خياله ولا مثابرته الطويلة، وجديته في العمل على إنتاج نصوص بمئات الصفحات، ولكن كونك تحس بوجوده في تلك النصوص، ووجود وطنه كله معه.

وقد صحبه موراكامي في جولة خاصة بالسيارة في مدينة طوكيو -كما قال- وكان يشير إلى كل شيء يصادفانه، الجسور والطرق والمارة، امرأة تقف على رصيف، طفل على عربة أطفال مثلا، ليقول بأنه كتب ذلك ذات يوم، وموجود في رواياته.
هذا الكلام المنمق لا ينطبق بالتأكيد على هاروكي موراكامي وحده، ولا على كتاب اليابان الذين يعرفهم الغرب والذين لا يعرفهم، فقط، ولكن ينطبق على كل من كتب وطنا في نص، في أي بقعة من العالم الفسيح.
وإن كان من حظ موراكامي أن الغرب ارتفع بصيته المحلي كثيرا، وحوله إلى صيت مدو لدرجة أن روائيين غربيين كثرا باتوا يتطلعون إليه باحترام كبير ويتمنون صحبته، ويتزاحم القراء في أي مكان انتظارا للحصول على نسخة من كتاب جديد يعلن عن صدوره.
وقد ذكر الدارس الذي التقاه أيضا أن موراكامي يقبع الآن في قلب السياحة اليابانية، إذ توجد نماذج من شخصياته وعبارات كتبها، وحتى أكواب للعصير التي ربما استخدمتها الشخوص في نص له، من ضمن ملصقات هذه السياحة.
قد يبدو ذلك الاحتفاء الخيالي غريبا على بلد كاليابان، عرف ببرمجة الأدمغة وصناعة التكنولوجيا المتطورة وتصديرها، وشعبه كله إما يعمل وإما يستريح قليلا ليعاود العمل، لكن بالقطع توجد التفاتات للثقافة، وفي هذا البلد يوجد كتاب كبار مثل: أوسامو دازاي ويوكو ميشيما وياسوناري كواباتا، والمخرج الشهير: أكيرو كوراساوا، الذي ُوصف ذات يوم بأنه أكثر المخرجين شعبية في العالم.
أعود لمسألة الأوطان، لأنها في رأيي الشخصي من يهب الإبداع أولا وأخيرا، وكل من يكتب أو يرسم أو يصنع شريطا سينمائيا عن الوطن سيغدو حقيقيا وصادقا.
ففي زمن الشدة والتبعثر، تبدو الكتابة شديدة ومبعثرة وصادقة، وأنت حين تصف وطنا محطما تصفه محطما، وحين تصف الفقراء تصفهم كما يوصف الفقراء، وحين تنتقد سياسيا غير عادل تنتقده بنبرة حقيقية. الكوارث هي الكوارث، والنواح الذي يتفصد من الحلوق هو النواح الحقيقي بكل تأكيد.
وفي زمن الرخاء والاستقرار -على الجانب الآخر- ستغدو الكتابة مستقرة وعامرة بمفردات الحياة المسترخية، هنا سيوصف الليل بأنه ليل العشاق الفرح، وسيوصف النهار مثلا بأنه نهار الضوء، بلا زيادة ولا نقصان.
في كثير من الأحيان، خاصة في بلادنا العربية تبدو الأوطان جافية بالنسبة لمبدعيها، تبدو الأحضان ضيقة، والنزيف الكتابي بلا ثمن ولا احتفاء، لكن ذلك لا يوقف الإبداع في أي مرحلة من مراحله، ولا يكون الوطن لا وطنا، حتى بالنسبة للذين هاجروا أو اغتربوا عن بلادهم.
فحين يرسم هؤلاء يرسمون باستدعاء الذكريات، وحين يكتبون قصيدة أو نصا روائيا يكتبونه من إيحاء زمن عاشوه في بلادهم، أو متغيرات سمعوا بها، وأجادوا الاحتفاظ بها في الذاكرة، خلافا للمتغيرات اليومية التي تحيط بحياتهم الجديدة في المهاجر.
وخير مثال لذلك أن روائيا معروفا مثل الأفغاني خالد حسيني -الذي هاجر صغيرا إلى أميركا ويكتب بلغة وطنه الجديد- لم يخرج في نصوصه عن وطنه الأصلي قط، وكذلك كتاب من الجزائر والمغرب وتونس ومصر وسوريا عاشوا سنوات طويلة في الخارج، وتعيش أعمالهم الإبداعية في وسط الطرق الوعرة لبلدانهم. وحين نقرأ نصا للألماني السوري رفيق شامي نقرأ نصا سوريا خالصا، تتسكع فيه الشخصيات في الشام بكل خصوصياته.
في زيارة لي لبلدي ذات صيف، جلست مع شاعر كان معلما في المدارس الابتدائية فيما مضى، والآن بلا وظيفة في بلد لا يحيا فيه الإنسان مسترخيا حتى لو كان يملك وظيفة. كان بلا مال ولا بيت يستقر فيه ولا هندام يميزه، لكنه كان شاعرا حقيقيا، تماما مثل موراكامي بفارق الشهرة والوطن.
حتى حديثه المر، كان حديثا وديا عن وطن لا يضمر له شرا برغم كل شيء، وبرغم أن عشرات من الشعراء جاؤوا بعده واكتسبوا حظوظا أكثر من حظه. كل قصائده -بحلوها ومرها، وهجائها ومدحها- كانت قصائد للوطن ومن الوطن.
وأذكر أن ناقدا معروفا في السودان ذكر مرة في حوار -حين سئل عن كتّاب بلاده المهاجرين في المنافي وعن رأيه في كتاباتهم -أن هؤلاء لا ينتمون للوطن في شيء، ما داموا قد اتبعوا خيار الهجرة، وأن عليهم أن يكتبوا عن أوطانهم الجديدة لأنها تمثلهم أكثر.
على الذي يوجد في هولندا -حسب رأيه- أن يكتب عن أجواء هولندا، والذي في أميركا أن يكتب عن مجتمع أميركا، والذي يعيش في الخليج أن يكتب عما يعيشه هناك.
هذا الناقد بلا شك -إن كان يقصد أو لا يقصد- يحاول أن ينزع ثياب الوطن بسهولة عن مفردات ارتدتها منذ الصغر ولا يمكن انتزاعها أبدا. ولعله يغير تلك النظرة حين يقرأ لجمال محجوب الذي يعيش خارجا منذ زمن طويل، وكتب عن الوطن ملبيا لفوران حليب أرضه الذي رضعه طفلا، وكذا الزميلة ليلى أبو العلا، وهي حتى في كتابتها لروايات تدور أحداثها في الغرب، إلا أنها روايات سودانية بامتياز.
إذن الأوطان ملح الكتابة، الأوطان التي نعيش فيها حتى نشيخ وربما تضيعنا بجفائها، والأوطان التي نهاجر منها لسبب أو لآخر ونعود إليها أجسادا بين الحين والحين، لكن تظل هي الأصل في كتابتنا، في رسوماتنا، في نحتنا، في تطلعاتنا، الشيء الحقيقي الذي لن يميز موراكامي وحده، ولكن يميز كل من خطا في سكة الإبداع في أي زمان ومكان.
______________
*روائي وكاتب من السودان(الجزيرة)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *