من رسومات الفنجان


*سهى زكي

قبل تنفيذ ما اعتزمته بعد تفكير ثلاث سنوات‮ ‬،‮ ‬وقفت نهال أمام المرأة،‮ ‬رسمت حاجبيها وكحلت عينيها ثم فردت شعرها الأسود الطويل الذي كاد‮ ‬يصل لأردافها،‮ ‬وارتدت فستان عاري الكتفين والصدر‮ ‬يحدد تفاصيلها ثم جلست تنظر لملامحها وتبكي وهي تخبر المرآة عما تفعله فيها الأيام‮ … ‬كانت ممثلة‮ “‬clown‮” ‬حرة تتنقل بين هذا المسرح وذاك تتقمص أشخاصا وتسخر منهم‮ ‬،‮ ‬لكنها صارت البطلة الوحيدة في مسرحيتها المؤلمة التي أجبرها أهلها على تمثيلها‮ …‬المسرح الذي لا‮ ‬يمل من العروض المتتالية خاصة العروض التراجيدية‮ ‬،‮ ‬أو عروض الضحك الأسود‮ ‬،‮ ‬قامت باداء دورها على أكمل وجه وتصدرت صورها كل الجنازات الإعلامية‮ .‬

تحدث الجميع بألم عن ذكرى ممثلة جميلة تعيش في دور لا‮ ‬يليق لها‮ ‬،‮ ‬لم‮ ‬يصفق لها أحد رغم أن المسرح‮ ‬يمتلئ عن آخره بالمتفرجين‮ ‬،‮ ‬سواء من الأقارب أوالجيران أو الأصدقاء أو حتى السائرين بلا هدف في الشارع‮ … ‬لم‮ ‬يعيروا لأدائها أي اهتمام‮ ‬،‮ ‬فما كان منها إلا إنها ثارت ثورة مؤذية لجمالها بعد أن تأملته لآخر مرة في المرآة وهي متأنقة جدا‮ .‬
جردت شعرها بموس وارتدت ملابس المهرج وخرجت لأمها مبتسمة تسألها عن أسعار الطماطم وغلاء السمك وكرهها للفراخ البيضاء التي‮ ‬ينعدم منها الخير‮ …!!‬
تصدر نهال لكل من‮ ‬يراها اكتئابا وتستورد هي منهم اللا مبالاة‮ ‬،‮ ‬لكي تعيش لابد أن لا تبالي بأي شيء أيا كان فاللامبالاة تشعرها بدغدغة في جسدها والمياه المثلجة تسري في العروق بدلا من الاكتئاب والدم المتجمد وذبحات القلب‮ !!‬
يلكزها بعض الزائرين لعرضها بعشرة جنيهات في الصميم كي تشتري سجائرها فهي لا تستطيع الاستمرار بآداء الدور دون دخان‮ … ‬
الملعون حبيبها باح بسر العشرة جنيهات بلا‮ ‬فصال‮ !!‬
قالت له عمته إن هناك عروسة جميلة ومؤدبة ولم‮ ‬يمسسها بشر فقال إنه لا‮ ‬يحبها لأنه لا‮ ‬يحب ولا‮ ‬يؤمن بحب العشرة و”شيلني واشيلك وقــدم السبت تلاقي الحد والقفة ام ودنين‮ ‬يشيلوها اثنين ” ،فهو‮ ‬يحلم بحب الروح ليكون مع شريكته واحدا صحيحا فبذلك تستقيم الحياة ولا‮ ‬يوجد شيء خطأ‮ !!‬
اغتصبت جسده لكنها لم تستطع اغتصاب الحب‮ !‬
ينساب المـاء عادة على الجسد ليطهره من الأوجاع‮ ‬،‮ ‬لكن نهال‮ ‬غير كل الناس فالماء‮ ‬يفقدها الأمـل إذا تكاثر فوق جسدها فهي تكرهه الى أن تزيله بالمنشفة فكأنها تخلق من جديد‮ ‬،‮ ‬الماء هو سر الحياة وهو أيضا سر تعاستها‮ ‬فمتى تحب الماء ؟‮!!‬
حبسها أخوها في البيت الصغير المبني بالطوب الاحمر والذي لا‮ ‬يحميه إلا أبواب حديد كبيرة ولا‮ ‬يوجد به سوى شباك واحد صغير نسي الغبي أن‮ ‬يضع له القضبان‮ .‬
تكومت على نفسها في ركن عشة الفراخ الموجودة في البيت والتي تقوم أمها كلما ذهبت هناك بإخراجهم إلى الشارع (لينفكوا شوية كما تقول أحسن‮ ‬يموتوا‮ …‬).
تجلس في كومتها تحسد الفراخ على الحرية الممنوحة لهم في ساعات المغرب‮ ‬،‮ ‬فهي حتى لا تستطيع أن تطل من الشباك الصغير الذين‮ ‬يغطونه بقطعة خشب على مقاسه تماما‮ …‬
تخرج أمها بعدما تسحق جنينها في بطنها تاركة نهال بنزيف لا‮ ‬يتوقف وتغلق الباب وهي تسب في العفاريت والشياطين الذين ركبوا ابنتها وجعلوها تهوي الفن و(سنينه السودا‮ )… “‬يابنتي ربنا‮ ‬يهديكي ويبعد عنك العفريت ابن الكلب‮ ‬،‮ ‬بس لو اعرف عايز منك ايه وانا اريحه‮” ‬،‮ ‬تنظر لها وهي ترتعد من الخوف لأنها ستهم بالخروج وغلق السجن عليها حالا‮ .‬
في ركنها المرعب تراقب الفئران وهي تقرض أوراق كتب ملقاة كمهملات والصراصير التي تسعى بين بقايا أكلها وأتتها فكرة عبقرية لتنقذ نفسها‮ … ‬منذ توفي والدها بعد صدمته فيها لأنها تزوجت بغير رغبته‮ ‬،‮ ‬أحضر الأهل ملابسه ورموا بها في هذا البيت فهو مخزن المهملات القديمة كلها‮ !‬
أحضرت كل ملابسه وقامت بلضمهم في بعض وقامت بتكسير اللوح الخشبي الموجود على الشباك الصغير بقوة الغضب والخوف التي تعيشه‮ ‬،‮ ‬ربطت الحبل المصنوع من ملابس أبوها ونزلت من الدورالثاني بهذا الحبل الذي انفكت ربطاته وهي علي وشك الوصول للأرض‮ ‬،‮ ‬أصيبت بكسر بسيط في ساقيها‮ ‬،‮ ‬لكنها لم تشعر بألم الكسر قدر سعادتها بالهروب من السجن‮ ‬،‮ ‬سارت بالكسر تقع وتقوم وتقوم وتقع إلى أن وصلت للمسرح الحقيقي الذي حلمت بالعودة له كل الليالي السابقة‮ ‬،‮ ‬استقبلها بعض الزملاء القدامى‮ ‬،‮ ‬الذين لم‮ ‬يقدروا قيمة ما عانته للعودة بينهم‮ ‬،‮ ‬لم‮ ‬يعطوها الاهتمام اللازم‮ !‬
ظلت تبحث في الشوارع وبين الاصدقاء عن سرير‮ ‬،‮ ‬لم تجد أي سرير‮ ‬،‮ ‬لكن هناك من وقف‮ ‬يحدثها عن الفردوس الحقيقي الذي‮ ‬يجب ان تذهب لها معه‮ :‬
الفردوس المنشود علي الأرض أولا‮ .. ‬لو ارتبطنا ببعض‮ ‬يبقى ارتباط فراديس‮ .. ‬فردوسك عامل إزاي‮ .. ‬تأخذ فردوسي وتديني فردوسك‮ !!‬
مللنا من الطرح والضرب فمتى الجمع‮ !!‬
دار بها دائرة كبيرة فسقطت حبا‮ ! ‬كان صلبا كالصخر بابتسامتها لأن المرض وقتها لم‮ ‬يلن لأحد عرف الاهل مكانها‮ ‬،‮ ‬اتفقوا معه وتحايلا عليها بعد أن وضعا لها كمية كبيرة من المنوم في كوب الشاي الذي تشربه بملعقتين ونصف من السكر‮ … ‬لم تدر إلا وهي على سريرها الخشب البني الذي تعرفت على رائحته قبل أن تفتح عينيها‮ ‬،‮ ‬لم تخطط من جديد للهرب‮ ‬،‮ ‬لكنها قررت هذه المرة أن تؤدي الدور الذين‮ ‬يدفعونها لأدائه فوقفت لهم في وسط الصالة الفارغة من أي اثاث لأنهم تخلصوا منه فالعفاريت الملعونه قامت بحرقه أكثر من مرة‮ ‬،‮ ‬فتخلصوا منه‮ …. ‬قامت بدور أمين شرطة في ميدان التحرير وأعطت لنفسها صلاحية تنظيم الشارع‮ …‬
المتجه‮ ‬يمينا‮ ‬يلزم الجانب الايسر‮ !‬
إنتبه ماذا أنت‮ .. ‬انتبه كيف أنت‮ .. ‬انتبه من أين أنت‮ !!‬
الأملاك هي التي تورث‮ .. ‬الوريث الوحيد لأعمالك هو أنت فانتبه‮ !‬
في ســواقــة العـــربات تجد لافتات‮ »‬هدئ السرعة‮« .. »‬منحنى خطر‮« ‬النقل‮ ‬يلزم الجانب الإيسر فلماذا لا تلزم‮ ‬الاشارات الأخرى‮ »‬قل خـيرا أو لتصمت‮« ‬حب لأخيك ما تحبه لنفسك‮ ‬لنصل بسلام كما في سواقة العربات لنصل للنجاة‮ ..!!‬
أول من‮ ‬يعلم إنك تكذب هوأنت‮ !!‬
الى الممر‮ .. ‬هناك ممر واحد لا غير وعلى الجميع اجتيازه إن عرفوا أولا أن هناك ممـراً‮ ‬هناك المعطيات‮ .. ‬المطلوب‮ .. ‬البــرهان‮ .. ‬فالمعطـــيات هي كل ما أراه أو أستشـــــعر بوجوده دون أن أراه‮ .. ‬والمطلوب من وراء كل هذا‮ .. ‬والبرهان هو ماتبرهن به على وجود الآخر من خلالك وليس من خلال‮ ‬غيرك‮ ..‬
كيف أريك ما في الصندوق وأنت أعمى!!‬
سينما . مسرح . أغاني‮ ..( ‬بنعوم في مية البطيخ‮ )!!‬
اتقنت بالطبع الوقوف في الميدان‮ ‬،‮ ‬لكن لم تستمع لها أي سيارة من السيارات المارة‮ ‬ بل وصل الأمر أن وقفت وسط الصالة تصرخ من أثر السيارة التي صدمتها‮ …!‬ 
قالوا إن الخروع‮ ‬يشفي الأمراض النفسية‮ … ‬إذا أخذت الخروع مع بعض الماء ورفعتهما على النار ثم صببته في كوب وشربته فهو‮ ‬يعالج نفسيا‮ .. ‬أخــــذت برطمان الخروع مع كوب وهذه هي الأشياء الوحيدة التي كانت معها في مستشفي الأمراض العقلية‮ !!‬
قاموا بإرسالها عندما فاجأتهم وهي على الباب ترتدي بنطلوناً‮ ‬وبلوزة وترغب في الخروج‮ ‬،‮ ‬فلم‮ ‬يفعلوا أي شيء سوى تكتيفها بالحبال داخل ملاءة بيضاء رائحتها تشبه رائحة بخورالمتسولين أمام المساجد‮ … ‬ولم‮ ‬يكلف الأب أو الأخ نفسهم حق السؤال عليها الاطمئنان عليها وهي تتعارك مع المجانين لأنهم‮ ‬يأخذون سجائرها ويضربونها لأنها تجلس صامتة تتفرج عليهم‮ ‬،‮ ‬لم‮ ‬يتكلفوا معاناة سؤال الاطباء الذين قاموا بكهربتها كلما فتحت فمها وقالت مسـ‮ … ‬ر‮…‬ح‮ ‬،‮ ‬فقبل استكمال الكلمة‮ ‬يأتين الممرضات علي عجل ويسحبونها إلى ‬غرفة التعذيب الكهربائي ليعالجونها من الهوس الغريب الذي تعاني منه‮ …‬
قال الأطباء انها هكذا أصبحت سليمة‮ !‬
لكن منذ أخذوها من المستشفي وهي لا تتكلم ولا تصرخ ولا تبكي ولا تذكر أي شـيء مما تعلمته‮ ‬،‮ ‬لكن الشيء الوحيد التي تذكرته هو آخر فنجان قرأته لها صديقتها ورحلت من حياتها شفافة كالبلور،‮ ‬فقد روت لها كل ما مرت به وهي الآن في انتظار النصف الثاني من الفنجان‮ ‬،‮ ‬تتلهــف لقوى خارقة تحرك حبال العرائس لمكانها المناسب‮ ‬،‮ ‬فمنـذ تشابكــت الخيوط لم تعــرف مكانها‮ !‬
________
*روائية وقاصة من مصر (أخبار الأدب)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *