تولستوي في ذكريات معاصريه


*د. ضياء نافع

اقتنيت كتابا روسيا في مخزن الكتب القديمة عنوانه – ( تولستوي في ذكريات معاصريه ). الكتاب صادر في موسكو عام 1955 عن دار نشر ( الأدب الفني ) السوفيتية المعروفة آنذاك , ويقع في ( 504) صفحات من القطع المتوسط , وقد طبعت دار النشر تلك 50 ألف نسخة منه. يضم الكتاب 39 مقالة عن تولستوي كتبها أناس عاصروه وعرفوه عن قرب, وتناولت مختلف جوانب حياته وإبداعه, وهناك ملحق في الكتاب يضم ملاحظات حول الأسماء والأحداث المرتبطة بتلك المقالات. لقد أصدرت دار النشر هذه سلسلة من الكتب تحت العنوان نفسه شملت كبار أدباء روسيا, وأشرف على هذه السلسلة أربعة من أساتذة الأدب الروسي المعروفين ,منهم البروفيسور غودزي رئيس قسم الأدب الروسي القديم في كلية الآداب بجامعة موسكو عندما كنت طالبا في الصف الثاني في تلك الكلية عام 1961, وتذكرت المحاضرات التي ألقاها علينا طوال الفصل الأول حول الأدب الروسي القديم.

قرأت الكتاب بمتعة كبيرة و اقتنعت تماما انه لم يفقد قيمته العلمية وأهميته برغم مرور حوالي 60 سنة على إصداره , ولهذا أود أن أكتب بعض السطور عنه , لتعريف القارئ بهذا الكتاب المهم حول تولستوي – الإنسان والفنان.
نجد في بداية الكتاب مقالة الفنانة الروسية ريجوفا وهي بعنوان – ( تولستوي في مسرح ماللي تياتر) ( المسرح الصغير ) , الذي نشرته عام 1928 في مجلة ( تياتر) ( المسرح) السوفيتية, والفنانة ريجوفا هي ممثلة في مسرح ماللي تياتر منذ عام 1893 وحازت لقب ( فنانة الشعب السوفيتي) عام 1937, وقد أدت دورا بارزا في مسرحية تولستوي ( سلطة الظلام) عندما تم عرضها في ذلك المسرح , وتتحدث المقالة عن انطباعات الممثلة عندما زار تولستوي المسرح وقرأ للممثلين نص مسرحيته تلك , وتتوقف عند فن الإلقاء لتولستوي وملاحظاته للممثلين ومتابعته للعرض المسرحي واهتمامه بكل التفاصيل المرتبطة به. لا يمكنني بالطبع ان أتحدث حتى في إطار هذا العرض الوجيز عن كل مقالات هذا الكتاب ,التي أشرت أعلاه إلى عددها, إذ أن ذلك يعني ان مقالتي ستأخذ حيزا غير اعتيادي تماما, لهذا فإني سأقدم للقارئ عناوين بعض المقالات ليس إلا ومضامينها العامة.
المقالة الأولى التي أود أن أتوقف قليلا عندها هي بعنوان – ( يوميات ) بقلم لازورسكي, والمستلة من كتاب ( الميراث الأدبي) الصادر في موسكو عام 1939, وكاتب هذه المقالة فلاديمير فيودوروفيتش لازورسكي ( 1869-1943 ) هو بروفيسور في قسم الأدب الأوروبي – الغربي بجامعة أوديسا في الامبراطورية الروسية آنذاك, وقد كان ضيفا عام 1894 لدى تولستوي في ضيعته ياسنايا بوليانا لتدريس أبنائه اللغتين الإغريقية واللاتينية , وقد كتب يومياته هناك اعتبارا من تاريخ 14 حزيران/يونيو 1894 ,واستمرت علاقاته بتولستوي إلى عام 1900, واختتم يومياته تلك بتاريخ 6 نيسان/ أبريل من عام 1900. تشغل هذه المذكرات 35 صفحة من الكتاب وتتناول بالتفصيل احاديث تولستوي معه في شتى المواضيع , وبالأساس طبعا المواضيع الأدبية , حيث يتناقش الاثنان حول الأدب العالمي والروسي ,ويجري الحديث عن شكسبير والرأي السلبي عند تولستوي عنه , وعن قراءات تولستوي للأدب الفرنسي باللغة الفرنسية وإعجابه الشديد بفيكتور هيغو وجان جاك روسو, ويتوقف كاتب المقالة عند ألف ليلة و ليلة التي يسميها الحكايات العربية ويتحدث كيف ان تولستوي حكى للجميع واحدة من تلك الحكايات عندما حولت الساحرة احد الأمراء إلى حصان, ويشير إلى ان تولستوي كان يعشق هذه الحكايات ويثمنها عاليا, ويدعو الآخرين إلى مطالعتها وخصوصا الشباب لأنها تعلمهم القيم والحكمة وترشدهم ,بل حتى كان يرى أنها أهم من قراءة مقالات مثل (ما هي الليبرالية). ونجد في ثنايا هذه المقالة آراء تولستوي حول الأدباء الروس أيضا, إذ يتحدث فيها عن دستويفسكي مثلا وينتقد بطلة روايته ( الجريمة والعقاب) سونيا ويعدها غير واقعية برغم انه يعد الرواية تحفة فنية وخصوصا بدايتها, ويتوقف عند الناقد الأدبي بيلينسكي ويقول عنه انه كتب أشياء جيدة في مجال النقد الأدبي , ولكن إذا نقوم بترجمته إلى اللغات الأجنبية فلن يعجبهم لأن ما يكتبه هو ممل وابتدائي, مؤكدا ان الأدب الروسي كان دائما أعلى من النقد الأدبي في روسيا , ويذكر اسم بوشكين مثلا على ما يقول .
المقالة الأخرى التي أود ان أتوقف قليلا عندها هي ما كتبه مكسيم غوركي بعنوان- ( ليف تولستوي ), المستلة من مجموعة مؤلفات غوركي/ الجزء الرابع عشر, التي صدرت في موسكو عام 1951. لقد كتب غوركي ملاحظاته وخواطره تلك عندما كان يختلط بتولستوي في عامي 1901 و1902 , وينهيها برسالة كتبها إلى كورولينكو بعد سماعه بهروب تولستوي من منزله ثم وفاته في احدى محطات القطار, علما انه لم يستطع إرسال هذه الرسالة إليه في حينها, وقد نشرها غوركي برغم انه لم يستطع إكمالها, وتشغل هذه الملاحظات والرسالة 47 صفحة من الكتاب . لا يمكن بالطبع اختصار الأفكار التي جاءت في مقالة غوركي تلك , وهي تستحق ان نترجمها كاملة إلى العربية لأنه رسم فيها صورة فكرية لتولستوي متنقلا بين آرائه الدينية والفلسفية والأدبية , بشكل حيوي ومتنوع , اذ انه وضع ملاحظاته تحت أرقام ( بلغت 44 رقما ) مما أعطاه حرية الكتابة والانتقال بين المواضيع المختلفة دون الالتزام الصارم والدقيق بمسيرة الحدث وخصائصه الذي كان يتناوله أو يتحدث عنه, وهي صيغة ناجحة جدا لرسم صورة قلمية لأديب ومفكر كبير مثل تولستوي.
يحتوي الكتاب على مقالات أخرى تستحق ان أتوقف عندها بلا شك , ولا يمكن إلا ان أشير اليها في ختام هذا العرض السريع والوجيز جدا, ومنها – مقالة المسرحي المعروف نيميروفيتش – دانجنكو( ذكريات عن تولستوي ),والذي طلب من تولستوي مسرحيته ( الجثة الحية ) لتقديمها على خشبة مسرح موسكو الفني, ومقالة الكاتب الروسي الكبير كورولينكو – ( حديث مع تولستوي )التي نشرت عام 1922 وتناولت موقف تولستوي من الاغتيالات السياسية في روسيا بداية القرن العشرين , ومقالات سيرغيينكو العديدة عن تولستوي ,هذا الإنسان الذي كان قريبا جدا منه , والذي ضم الكتاب مقالاته مثل – ( تولستوي والأطفال ) و ( كيف تمت كتابة وصية تولستوي ) , ومقالة ابن تولستوي – ( الموسيقى في حياة أبي), ومقالة ماكوفيتسكي – ( مرض وموت ليف نيقولايفتش تولستوي ) وهو الذي رافق تولستوي في الأيام الثلاثة الأخيرة بعد هروبه من بيته.
والخلاصة, فإن كتاب ( تولستوي في ذكريات معاصريه ) الصادر في موسكو عام 1955 هو وثيقة في غاية الأهمية للتعرف على ( كاتب الأرض الروسية العظيم )كما يسمونه والتعمق في دراسة إبداعه.
________
*(المدى)

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *