النرويجي روي ياكوبسن ..العالم بعيون طفل


**هيثم حسين

يختار الروائي النرويجي روي ياكوبسن عقد الستينيات من القرن العشرين ليكون خلفيّة زمنية لأحداث روايته “صيف بارد جدا”، ذلك العقد الذي شهد تغيّرات في أوروبا وأميركا، قامت فيه احتجاجات الطلاب التي انتشرت في مناطق كثيرة، وكان لها أصداء مدوّية وتأثيرات كبيرة.

هذا على الصعيد العام، أما على صعيد شخصياته فإن تلك الفترة تتقاطع مع طفولته ليسقط طفولته المَعيشة على طفولة بطله المستعادة، ويحضر أثناء ذلك نوع من التماهي بينهما، بحيث إنه يقع في شراك الإفصاح عن رغبات طفل بوعي راشد، يلتقط تفاصيل العالم ويبوح به من خلال الطفل المغامر فين، فتكون عين “فين” الطفل التي هي ستارة لعين ياكوبسن وكشّافة أفكاره، تكون المجهر الراصد لسيرورة الطبيعة والمجتمع.
مشاعر متضاربة
يتحدث روي ياكوبسن في روايته التي ترجمها مؤخرا عمرو محمود السيد ونشرتها دار العربي بالقاهرة بلسان الطفل. يروي مشاهداته وتحليلاته من خلاله، يمنحه فسحة للانطلاق والتحرّر من قيود الكبار والمجتمع. يتتبّع نشأته مع تعاقب الأيام والفصول، ويصور مشاعر إنسانية متضاربة تربط بين الشخصيّات.
ولا ينساق ياكوبسن وراء مقولة إن الأشياء التابعة للطفولة ينبغي أن تدفَن، بل تراه يسعى إلى استرجاعها وتخليدها لتكون حاضرة للاعتبار وتفعيل الذاكرة والتحريض الدائم على التغيير.
يعيش “فين” مع والدته المطلقة في منطقة توتسن، يعانيان من سوء الحالة المادية، ولاسيما أن الأم تعمل بنصف دوام، ويكون راتب زوجها المتوفى من نصيب زوجته الثانية. ونتيجة لسوء الأوضاع المادّية يضطران إلى الاكتفاء بالقليل الذي يتوفر لهما، يضطران إلى نشر إعلان لتأجير غرفة في البيت كي يزيد دخلهما ويتمكنا من تأمين مستلزماتهما.
تتفاجأ الأم بزائرة غريبة تصارحها بأنها أرملة زوجها، وأن لها ابنة تعاني معها، لأنها مدمنة، وترجوها أن تتبنى الطفلة لأنها أم أخيها غير الشقيق. ومن هنا تبدأ الحكاية وتفعل المرايا والفصول فعلها.
الفتاة الوافدة ليندا تصل بهيئة مزرية وحالة نفسية بائسة، تبدو غريبة الأطوار، تنكمش على نفسها، تكرر كلمات قليلة، تذعن للأوامر البسيطة، كما تبدو فاقدة لأية حماسة، حركاتها آلية، تحمل حقيبتها الزرقاء وتنضمّ إلى الأسرة. ويسبب مجيئها، ومجيء المستأجر كريستيان إلى المنزل تغييرا كبيرا.
رؤية للعالم
يفقد فين حرّيته وغرفته، يمكث مع ليندا وأمه في غرفة واحدة، يتواصل مع كريستيان بين اليوم والآخر، يتعرف من خلاله إلى الكثير من الأشياء والأمور. يستعير منه كتبا يطلع عليها، ويجذبه الغموض الذي يحفّزه على الاستكشاف والمغامرة.
يرصد ياكوبسن التغيرات التي تطرأ على الفتى في مرحلة الطفولة المتأخرة، حين ينطق بهواجسه وتصوراته للعالم لذاته والمحيطين به وللعالم من حوله، وكيف أن حادثة بسيطة قد تكون سببا في تغيير طفل وتوعيته.
ويربط ياكوبسن تطور شخصية فين بتعاقب الفصول، ذلك أن كل فصل يدعم جانبا في الشخصيّة ويؤسّس لها، وحين تكتمل دورة الفصول، وتختتم السنة بعيد الميلاد الذي يكون بداية جديدة لدورة جديدة، يزداد وعي الطفل الذي يشعر بأنّه تغيّر كثيرا خلال السنة.
بعد صيف مفعم بالحركة والنشاط والرحلات، استمتع فيه فين في الجزيرة التي قصدها مع أمه وليندا، وبعد انسحاب أمه وتركه هناك لعدة أيام مع الآخرين، ثم ما تلا ذلك من مشاكل في المدرسة بخصوص ليندا يأتي الفراغ الذي أحدثته ليندا برحيلها المفاجئ الذي لم يقل غرابة وتأثيرا عن قدومها تمامًا حين تبنتها أسرة تكفّلت بها.
يبلغ التغيير ذروته في الصيف، وعادة ما يكون صيف النرويج متسما بالجمال والحرارة الدافئة المنشودة، والمنتظرة طيلة السنة، لكن صيف الشخصيات يكون باردا جدا، يصادف أن يتعارض مع حركة الفصول ودورات الطبيعة.
مرايا الزمن
يكون للبشر والشخصيات فصولهم النفسية الخاصة التي لا تنقاد لسلطة الزمن، بحيث يتبدى أن الطفل يكبر خلال عام ويبصر فيه الكثير من الأشياء التي تحتاج لسنين طويلة، وتكون البرودة عابرة للطبيعة، بحيث تجمد العلاقات الأسرية الحميمة، وتبدّد الدفء الذي يسودها، فينعكس ذلك على الأفراد غربة ونفيا إلى الداخل وتقوقعا على الذات في انتظار ما ستسفر عنه الأيام.
في الفصول الأخيرة يتخلى الروائي عن استنطاق الطفل والتحدث باسمه ولسانه كطفل صغير، بل يتحدث “فين” الكبير الراشد، الذي ينظر إلى الأمور بمنظار مختلف، ويكون صورة الروائي نفسه، يستعيد مراياه الزمنية ليرحل إلى الماضي ويستخلص منه الجماليات التي كوّنت شخصيته وبلورت وجوده وساهمت في توعيته.
وعلى طريقة الروائي والشاعر النرويجيّ كنوت هامسون (1859 – 1952) الحائز جائزة نوبل سنة 1920يظهر ياكوبسن حريصا على وصف الكثير من عادات النرويجيّين وطقوسهم خلال السنة كلها، فصلا فصلا، وذلك من خلال تتبّع حياة شخصياته وتنقلاتها.
ويذكر من خلالها ما يقوم به الناس في كل فصل، وما يمكن لأبناء كل طبقة القيام به تبعا للحالة الاقتصادية التي تتحكم في الكثير من الناس وتقيدهم. كما يظهر الحميمية التي تسود بين الناس، وإن كان ذلك عبر جدران عالية من البرودة المفتعلة كنوع من الحماية الواجبة.
وتكون الرواية كوّة للتغني بالنرويج وأهلها وطبيعتها، بحيث يحضر نوع من التغزّل بجمال الطبيعة والجبال والبحيرات والجزر فيها، وذلك جنبا إلى جنب مع توصيف واقع الحال، والصعوبات التي يلاقيها الناس هناك في سبيل تأمين لوازمهم.
يذكَر أن روي ياكوبسون من مواليد 1954، وقد صدرت روايته الأولى 1982 بعنوان “سجن الحياة”، وهو يعتبر من أشهر الكتاب المؤثّرين في الأدب النرويجي المعاصر، تعد حصيلة أعماله أربع مجموعات قصصية، وإحدى عشرة رواية، وقصة للأطفال، وسيرة ذاتية.
_________
*(الجزيرة)

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *