الشاعر توماس ترانسترومر..أدخلي يا ليلة الربيع إلى غرفتنا


*

صدرت الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر توماس ترانسترومر الفائز بجائزة نوبل عام 2011 . قرأت المجموعة باهتمام ودهشة مثلما هو حاصل دائماً بعلاقتي مع الشعر التي تكاد تكون يومية . استملكني كلياً هذا الشاعر خلال ثلاثة أيام ، هي الأكثر إثارة ومتعة في علاقتي مع الشعر . يتضح هذا الاندهاش عبر اختياري مقطعاً من قصائده عنواناً لمقالتي . ويكفي هذا البيت (أدخلي يا ليلة الربيع إلى غرفتنا / متخفية في زي دقات القلب) للكشف عن قوة الإدهاش والمتعة والغرابة التي أثارتها تجربة لا تشبه أخرى . ترانسترومر شاعر عرف الكشف عن الأشياء الكثيرة والمتنوعة في الحياة وقدم جوهرها الشعري غير المعروف من قبل ، وحده الذي يملك طاقة الكشط وراء الراسب / المتراكم فوق الجوهر الذي يصل إليه الشعر الذي كان نموذجه توماس ترانسترومر المهووس باليومي والمعاش والمألوف حتى لنا ، لكنه يراوغ تلك التقليدية أو النمطية من خلال الزوغان عنها وإكساء كل الذي يبدو محاكياً وتمثيلاً بالمجاز أو التفنن بتحويل العادي إلى رمزي ، بحيث يظل المتلقي تحت سطوة الدهشة المتأتية من مهارة اللعب بين الشاعر ويومياته النمطية . مهارة أعادت إنتاج المألوف وجعلته مغايراً ومختلفاً من خلال الصورة التي اشتغل عليها ترانسترومر واصطفت الصور المرسومة شعرياً ، ليقدم لنا نوعاً حياتياً بواسطة الشعر والدهشة غير المعطلة ، بل المتحركة في أعماق النفس . إنه الباحث عن الأسطورة لإزاحة اليومي المدّون / التعاقبي مثل شريط صوري ، لكنه يتفجر دفاقاً بالمعنى المدهش والغريب . وأعتقد بأن هذا الشاعر استطاع التقاط الغرابة وكشف عنها ، هو خبير بذلك وجعل من المتكرر نادراً ومن الحضور الدائم غياباً تستدعيه الصورة ليأخذ حضور الشعر وبلاغته . والعنوان الذي اخترته من الديوان لهذه المقالة يختصر ملاحظاتي ليس وحده في الأعمال الكاملة ، بل بوصفه مثالاً واحداً . الحياة من الوحدات البنائية في هذه التجربة ولها حضور واسع جداً وتبدّيات كثيرة ، لأنه جعل منها طرفاً نقيضاً للموت الحاضر بكثافة وأعتقد بأن الموت الحاضر وضاغط جداً ، لكن الشاعر ابتدع آلية فنية للعب بالموت ومعه ، ولا أحد قادر على استعادة الإنسان ثانية من الموت إلا الإبداع ، وتبين بأن الشعر أكثر تبدّيا ، كما اتضح في هذه التجربة . لأن الشاعر توماس ترانسترومر يعرف وبمهارة بأن الشعر قادر على إنتاج السرد واستعادة التاريخ .

وتوظيف كل تفاصيل الذاكرة شعرياً . لا يوجد شيء عصي على الشعر ، لذا كانت كل الأشياء حاضرة فيه ، راضية ومخلدة به ، وهذا سر من أسرار هذه التجربة . الحياة في شعره فوارة ، محتدمة ، سريعة ، صاعدة ، هابطة منطفئة ، منبعثة ، كل ما يريده منها الشاعر ماثل أمامنا في صورة الفذة وعناصره البنائية الغريبة ، بالرغم من نصوص الشاعر قصيرة ، حتى الأطول منها ، لكنها مزدحمة بتفاصيل الذات والآخر ، الحاضر والغائب في سرديات التاريخ فالحياة ولادة وموت ، تجدد وتحول ، ثنائية معروفة منذ الأصل الأول للحضارات الإنسانية . والغابة نموذج لشعرية ترانسترومر وحاوية على شبكة رمزية تفيض دلالة ، والأقرب ثنائيتها للتعبير عن الحياة والموت . والغابة كما في نصوصه قادرة على مقاومة الموت والاندثار الكلي ، تموت قليلاً وتترك لنا آثار موتها وسط الغابة ، لكنها تتجدد . ومن يقرأ هذه التجربة سيتوصل بيسر وسهولة الى أن هذه الثنائية متحركة والتعبير عنها متحرك أيضاً . فما يدل على الحياة كثير من العلامات والإشارات الحياتية أو الرموز المعروفة أو الغريبة في الشعر ، لأنه وحده القادر على ابتكار مثل هذه القيم الفنية الرفيعة ، منذ لحظة الشعر الأولى الماء ، الأشجار ، الصفاء ، الخضرة ، الريح ، البحر ، الطحالب ، الشمس … الخ دالات على حيوية الحضور ومقاومة الرماد ، لذا أنا اعتقد بأن عنوان مقالتي ومكمله أغنى الثنائية مع غيره – وهو كثير- في الأعمال الشعرية الكاملة .
” ادخلي يا ليلة الربيع ” دعوة للحضور واستعادة للعود الأبدي ، الربيع ، النداء فيه تمجيد للحياة والانبعاث ، وربما تعني ليلة الربيع ، الزمن الذي تبدّى فيه هذا الفصل بعد تعطل مؤقت ، ودعوة الدخول إلى غرفة الشاعر تفضي نحو قراءة تومئ إلى أن ليلة الربيع ، أنثى مازالت فتية وهي مع المحيط والفضاء متماثلة موضوعياً ورمزياً . وتحديد غرفة الشاعر مكاناً لليلة الربيع ، كاشف عن العلاقة العميقة روحياً وثقافياً بين الشاعر وحياته / الربيع والتجدد ، هذا المقطع المركز مثلما كل نصوصه مضيء للطاقة الكامنة في جسد الشاعر وجنونه بالحياة وتمظهراتها ، هو تعبير عن فوران طاقته ، لأن قصيدة فنان في الشمال ، ضمن مجموعته ” تناغمات وآثار عام 1966) تومئ عبر مروريات عن الانغمار بالحياة وجمالها ومن المحتمل أن تكون هذه القصيدة محملة بشيء من سيرة الشاعر متجاوراً مع الفنان الشمالي ، كما أنها النص – سير – ذاتي يقص علينا لحظة من شبابه الغوار ، وربما ليلة الربيع دلالة على حلم الفضاء الجديد ، الحلم الغابي المتسيّد في الأعمال الشعرية . هذه الليلة يريدها الشاعر سرية ، متكتمة على فعل دخولها إلى غرفة الشاعر ، متخفية في زي دقات القلب ، التناظر مكشوف بين الربيع وما يستولده من فرح وسعادة في الداخل البشري ، من هنا أراد الشاعر أن تكون دقات القلب زياً تنكرياً لها . والعودة على ما سبق هذا النص سنتعرف على التماهي المكرس في هذه التجربة الشعرية الفريدة كما يميزها فنياً وبنائياً على التضاد وفاعلية الثنائي ، والتخفي بزي دقات القلب تماه مع المقطع الذي أشار إلى ” ضربات المطارق في الجبل ” ادخلي / ادخلي / ادخلي / ادخلي يا ليلة الربيع إلى غرفتنا / متخفية في زي دقات القلب / ص156/ ” في شعرية توماس ترانسترومر زي خاص / إيقاع متفرد لضرب المطارق ودقات القلب ، بالإمكان التعامل مع هذا بوصفه مثالاً لبعض مميزات هذه التجربة وأهمها حضور ضمير المتكلم في السرد الشعري . وكان استهلالاً في هذا النص الذي حضرت فيه الموسيقى مثلما في غيره من النصوص ، وتكاد تكون –الموسيقى- صوتاً مهيمناً عبر الإشارة لها صراحة ، أو عبر إيقاعات أوقات اليوم ، والطبيعة والغابات والبحار … الخ ، كذلك الحضور الغائي للصمت أمام الصخب الهائل والإيقاعات التي يفضي إليها التضاد . كذلك الأمكنة وكأن الشاعر مجنون بالظاهراتية . وبلاغة حضورها شكل من سيادة المحيط / الفضاء / اضافة إلى المعيوشات . 
الصمت ظاهرة ضمن بنية التضاد والتعارض ،
يبرز التضاد الحاد بين الحياة والموت ويكاد يكون وحدة بنائية مركزية في التجربة الشعرية . والتضاد والمعكوسات هي جماليات شعر ترانسترومر كما في : حلمت أني رسمت مفاتيح البيانو / على طاولة المطبخ . عزفت عليها ، عزفاً أخرس / الجيران أتوا للاستماع ص344/ هذا نوع من مفارقة مبنية على متخيل وهمي ويؤمل منه التحقق ، فيكون هو الآخر وهماً ومثل هذا اللعب الذي مارسناها في كتابة قصص وأشعار للأطفال نوع من خلق متلاعب به ، خلق اليومي في الشعر اختراع المبدع الأكثر علواً وتسامياً من الفيلسوف كما في تراتبيات أرسطو . ومثل شعر ترانسترومر يواجه الحياة في كل لحظة بواسطة الشعر ، أي أن ترانسترومر كله شعر ، حتى تفاصيله البسيطة والخاصة جداً .
ورثت غابة معتمة نادراً ما أذهب إليها . 
لكن يأتي يوم
سيتبادل فيه الموتى والأحياء أماكنهم . وقتذاك تبدأ الغابة بالحركة .
لسنا بدون أمل أصعب حالات الإجرام تبقى بلا حل رغم جهد عدد كبير من الشرطة . بالطريقة نفسها يوجد حب كبير بلا حل في مكان ما داخل حياتنا .
ورثت غابة معتمة لكني أذهب اليوم إلى غابة أخرى 
الغابة المنيرة . كل شيء حي يغني ، يتلوى ، يلوح ، ويزحف ! إنه الربيع والهواء شديد القوة . أحمل شهادة من جامعة النسيان ، ويداي خاليتان كمثل قميص على الحبل ص330 .
لكنه يقولها سهلة ، واضحة ، قريبة منا متحركة نحونا ، لكنها مشفرة ، لأنها مثل يومياته – هكذا هي فعلاً- الآتية من فضاء الخلق الذي يتحسسه الشاعر ويكتشفه في اللامرئيات من الحياة . هذه الحياة كلها ، خاصياته هي ابتداء بالموسيقى والغابة / الأشجار ، البحار ، السفن ، القوارب ، الأنفاق ، المتاهات ، سرديات التاريخ ، الذاكرة ، جندول الأحزان ، الأزياء ، … الخ ترددت في نصوصه وكأنها عكاكيزه الشعرية التي تمنح الكائن المنكفئ طاقة الصحو وأخذه لفضاء اليقظات طويلاً أو قليلاً وبينهما حضور لعب ترانسترومر في مساحة بين الحياة والموت أو التضادات الكثيرة الأخرى .
_________
*(المدى)

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *