الطرف الثالث


عزت القمحاوي*


على مسافة خطوات من ميدان التحرير جلسنا بمقهى في الشارع بعد الإطاحة بمرسي مباشرة، كنا مجموعة من المصريين والسوريين. قالت إحدى السوريات: الدنيا حظوظ فعلاً، حتى في الثورات.
ضحكنا؛ ليس لأننا سعداء بل لأن الضحك صار ممارسة حيوية منذ عرف الإنسان العيش في مجتمعات، والذين يقدرون الضحك أكثر من غيرهم بوسعهم أن يرصدوا المفارقات المضحكة لحظة تشييع جثمان وبوسعهم أن يضحكوا بينـــــما يقصون مواقف من حياة عزيز رحل، لكن ذلك لا يعني أنهم لا يفتقدونه بالقدر الذي يفتقده به مقربون آخرون يحافظون على العبوس اللائق بالموت.
تبدأ ثورات مصر سريعة، بل تنطلق نهضاتها سريعًا عندما يكون هناك ديكتاتور صاحب رؤية، ولكن الثورة والنهضة لا يلبثان أن يذهبا سريعًا أيضًا. وقد عرفت مصر الحديثة ثلاث نهضات كبرى. الأولى على يد مؤسس مصر الحديثة الملازم الألباني محمد علي الذي تمكن في عشر سنوات من تهديد الإمبراطورية العثمانية التي يتبعها، واختارت القوى الاستعمارية ـ على ما تكنه للعثمانيين من كراهية ـ الاصطفاف السافر لصالح الامبراطورية صاحبة التراث الدموي في أوروبا وتم تحجيم محمد علي باتفاقية دولية.
النهضة الثانية كانت في الثورة الشعبية العارمة عام 1919 التي جاءت ثمرة ميلاد طبـــــقة مصرية متعلمة أسست فكرًا واقتصادًا وطنيين، وهذه واجهتها بريطانيا بالقمع على المدى القصير وبالحيلة الجهنمية على المدى البعيد بتأسيس جماعة الإخوان.
ثم كانت نهضة 23 يوليو 1952 التي قادها جمال عبد الناصر، وهذه كذلك تضافرت فيها الحيلة مع الإرهاق المباشر بالحروب، حتى ترتيبات كامب ديفيد التي أسست لحقبة التدمير الذاتي مصريًا وعربيًا دونما حاجة إلى تدخل مباشر، والخطة تعمل بكفاءة حتى اليوم وغدًا.
تستطيع مصر النهوض بسرعة وبقــــوة بفضــــل حجم شعبها، ويستطيع الاستعمار تدبير الفرصة لعرقلتها بفضل حجمه وتنظيمه. تستطيع مصر كذلك أن تثور وتقدم الأرقام القياسية من المحتجين الذين سيمتدحهم الاستعمار ليرضيهم لحظة النصر ويستدير لإخراج خطته المعدة سلفاً لتبديد أثر احتجاجهم.
لا يقف الاستعمار مباشرة في وجه ثورة مصر لسببين: ارتفاع الموجة البشرية في الثورات المصرية، وموقع مصر الذي يجعل فوضاها غير محتملة من الآخرين قبل أن تكون غير محتملة من أهلها، وربما يكون هذا هو جانب الحظ الوحيد في الثورات المصرية. وقد عمل هذا الحظ مع المكر السيىء في الموجة الأولى من الثورة الحالية في 25 يناير، فكانت سرعة مباركة الغرب للثورة الشعبية سببًا في التعجيل برحيل مبارك، لكن الثورة التي لم يدفع المصريون ثمنها بالكامل تعرضت للسرقة بالكامل، إذ باركت أمريكا ورعت حفل التسليم والتسلم بين قوتين تنتميان للماضي فكرًا وممارسة وكانتا دومًا شريكتين في اللعب. ويبدو أن الخطة كانت محاصصة اقتصادية وسلطوية مع تبادل في المواقع، تتقدم الجماعة الدينية من الهامش إلى المتن ويرتد الشريك إلى الهامش. لهذا لم يتغير شيء، وظلت الثورة بعيدة عن السلطة، كما ظل القصاص للشهداء مستحيلاً.
لم يفعل الإخوان أي شيء لتغيير البنية الاقتصادية والإدارية التي كانت سائدة في عهد مبارك، حتى الإعلام الرسمي الذي طالما ناصبهم العداء أيام مبارك والذي ظلوا يشكون من تعويقه سلطتهم طوال العام، لم يحاولوا إصلاحه من الجذور.
نظم مبارك الإعلام كما سائر مؤسسات الدولة على بنية التنظيمات الإجرامية لا بنية الدولة، فقائد العصابة يتقاضى الملايين ورجاله لا يجدون قوت يومهم. وسار الإعلام الجديد مكتوبًا ومرئيًا على الدرب نفسه، حيث لا مجال للمهنية وإنما للنجم الذي يستطيع أن يسبح مع اتجاه الريح.
أرادوا الثمرة معطوبة كما هي لكي تعمل لفائدتهم؛ فحافظوا على هذه البنية الفاسدة رافضين تحديد الحد الأقصى للأجور، وأخذوا يغيرون في الأشخاص. وادعوا أن أيديهم مغلولة، بينما هي في الواقع طليقة ولم تستطع قوة إعاقتهم عن اتخاذ قرار سياسي كل يوم للتمكن من مفاصل الماكينة المتعطلة بدلاً من تشغيلها.
كل ما فعلوه كان تنكرًا تامًا للثورة. وضعوها في الجانب المعتم من الصورة مدعين أنهم يديرون معركة مع بقايا نظام دولة مبارك!
والتاريخ ليس ببعيد، والتعاون بين الجماعة نظام مبارك مدون في تصريحات قادتهم ومحاصصات الانتخابات طوال حكم المخلوع المريض، وطوال الفترة الانتقالية التي رتبت وصولهم إلى الحكم برعاية الولايات المتحــــدة التي تعرف كل ما فعلوه ومع ذلك لم تتخذ تجاه مرسي موقفًا بالسرعة التي تعاملت بها مع مبارك.
أبلت الجماعة حسنًا من وجهة نظر الأمريكيين، أنكرت دم شهداء الثورة الذين وقفوا في وجه العسكر طوال عام ونصف، تسترت على مذابح كبرى جرت أمام مبنى التليفزيون وفي شارع محمد محمود أمام وزارة الداخلية وفي مدرجات ملعب بورسعيد، وقد عوقبت المدينة المقاومة بمذبحة جديدة عندما احتجت على أحكام قضائية وضعت المذبحة في رقاب أبناء المدينة ولم تكشف عن المدبرين الكبار في السلطة.
وعلى الرغم من فداحة التفاوض بالدم؛ فالثورة ستستمر، حتى يرثها الشباب. والوزارة الحالية خطوة على الطريق، إذ تضم مسنين وكهولاً من صفوف الثورة، ما يعطي دفعة لربيع مصر وربيع العرب الذي تفتح دون حساب للمخاطر ودون مساعدة من أحد، لكن قوى الماضي الداخلية والإقليمية وقوى الاستعمار الخارجي تستميت من أجل تبديد هذا الربيع.


شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *