مساحيق للشهادة



من غير حروب مقدسة صار العربي يجد نفسه محظوظاً في الحصول على لقب شهيد، ليذهب إلى الجنة مباشرة من دون أن يعرى من ثيابه ويحق له هناك أن يكون في رفقة الأنبياء والصدّيقين وصفوة البشر. الشهداء لا يُسألون عما ارتكبوه من معاصٍ وآثام وذنوب في سالف أيامهم، ما دامت صفة الشهادة تتقدمهم وتقدّمهم إلى الملائكة ممن يقومون بجرد أعمال الكائن الأرضي يوم الحساب.

إلى روح الرسّام ياسين عطية الذي عاش لاجئاً في الدانمارك ليموت في بغداد شهيداً

في اغلب الحالات يحصل المرء فجأةً على صفة، وبطريقة لا ارادية، مثل هبة إلهية تحلّ من غير أن يكون المرء قد سعى إليها: طلقة قنّاص ضجِر، انفجار سيارة مفخخة، رجل يحتضنكَ لتنفجرا معاً بقوة حزام ناسف، لغم منسيّ من أيام الحروب التاريخية تدوسه خطأ، قنبلة تسقط على مخبز، تكون أنتَ بالمصادفة واحداً من زبائنه. هراوة شرطي تضلّ طريقها لتقع على رأسكَ. معجزة من هذا النوع يمكن أن تقع في كل لحظة، فتكون الطريق بعدها سالكةً أمامكَ إلى الجنة.
المواطن الذي صار عنوةً شهيداً، لن يجد أمامه متسعاً من الوقت ليفهم ما جرى له. بالقوة نفسها، سيكون عاجزاً عن توضيح موقفه للجماهير التي تحتفي به بطلاً شهيداً، وتتبارك بلمس تابوته ورفعه. سيكون نوعاً من الفكاهة لو أن ذلك المواطن أخرج رأسه من التابوت وقال لتلك الجماهير الملتاعة إنه لم يكن يرغب في الموت ولم يكن حتى ليفكر في الشهادة: “كل شيء كان قد حدث بالمصادفة. رأيتُ طابورا من الناس فسألتُ أحدهم فأخبرني أنهم يبيعون الدجاج بالسعر الرسمي فوقفتُ في انتظار أن أصل إلى الشبّاك. بدلا من الدجاج حصلتُ على بطاقة خضراء لدخول الجنة”.
لن يخبرهم المواطن الذي صار شهيداً، أنه كان قبل وقوفه في ذلك الطابور، في طريقه إلى السفارة الكندية لإجراء مقابلة الهجرة من الوطن الذي صار ثقيلاً ومزعجاً. سيحمد ربّه، فكندا ليست أفضل من الجنّة. لن يحتاج في الجنّة إلى تعلّم اللغة الانكليزية أو الفرنسية، مثلما هي الحال في كندا. في السماء هناك لغةٌ من غير كلمات.
“كانت الكلمات مصدر عذاب في الدنيا”، سيقول لصاحبته التي جاءت بحسب المواصفات والمقاييس التي كان يحلم بها دنيوياً: شقراء، طويلة، بعنق زرافة، كلّ جزء من جسدها في مكانه وفق النسبة الذهبية التي وثّقها دافنتشي. واحد من ثمانية. الرأس واحد، فيما تتوزع السبعة بين أجزاء الجسم الأخرى. يضبط سبّابته على الإبهام ويقول لها: “مضبوط كما ورد في الدرس”. تضحك الفتاة التي خمّن أنها كانت من أصول اسكندينافية. يضيف: “تقولين هناك إنك تكرهين الحرب فيضمّك السامعون إلى الماشيات على أربع”. تثغو الفتاة مثل شاة ترعى في وادٍ لا زرع فيه. حجازية أصيلة. لا يسألها “أين تقع نجد؟” يتأملها وسط صخب كانت رئتاه ومعدته وبنكرياسه وقلبه وغدده الصماء وأمعاؤه الخفيفة والثقيلة وزائدته الدودية روافده فلا يجد في وجهها، وخصوصاً بين الحاجبين، في المسافة التي تقع فوق الفم وتحت الأنف، أي غصة. “أما إذا قلتِ لهم إن الدين لله فسيضحك الجميع منك لسذاجتك، لفطرتك التي يجب أن تمحى وتزول نهائياً. نعرف أن الدين لله ولكننا جنود الله المكلفون تطبيق أحكامه التي هي أحكامنا. حينها ستكونين نوعاً من جان دارك”.
“لقد رأيتها” تقول له الفتاة بأسى: “المسكينة جاءت على هيئة قطعة فحم”.
يفكر الشهيد في الحسنوات العراقيات والسوريات واللبنانيات اللواتي وصلن في قطار طويل لشحن المحروقات، ويقرر الذهاب في وقت آخر للبحث عنهن في الشوارع الخلفية. ربما سيلتقي هناك جارته.
جارته الحلوة لم تكن مضبوطة الخطوات. كان إيقاعها الساحر يعرج كلما رأته. تصمت ساعته حين تحرّك أجفانها المضطربة الهواء. البنت التي تقع مؤخرتها في بلد، وصدرها في بلد آخر، كانت قد ألهمته شغفاً متمرداً بالجمال العربي. حين عمّت الفوضى، كانت نجاتها معجزة. فلا هي من داعيات النقاب، ولا هي من ضاربات الأقدام بالخلاخل. “أنا حرة”، قالت، فكانت تلك الجملة صليبها ومدوّنتها الأخيرة.
“ولكن ما بال العرب وحدهم في العصر الحديث يذهبون إلى بارئهم باعتبارهم شهداء وشهيدات؟”، صار يتساءل. سيكون عليه أن يفكر في الشهادة كونها مكافأة خاصة لخير أمة أنزلت.
يعيش العربي حياة لا تصلح للاستهلاك البشري. “مثل كلب”، تلك هي الجملة التي أنهى بها كافكا روايته “المحاكمة”. ينهي العربي نزاعه الذي يُسمّى، مجازاً، حياةً وردية، هارباً مثل كلب مطارد. لوعته تسبقه إلى الحدود الدولية، حدود الأرض وحدود اليأس. ما لم يكن رقماً في قطيع، فإن كراهية الجميع ستقع على رأسه مثل فأس. يكرهه الجميع وإن كان لا يعرف أحداً منهم: التقدميون والرجعيون. الملكيون والجمهوريون. أنصار البيئة وأعداؤها. المتديّنون والملحدون. الحاكمون والمعارضون. الحزبيون وذوو الغنائم الخاصة. “أبعدوا هذا العربي الكريه”، يلاحقه الصوت، فيختار أن يمضي في طريقه غير الآمنة. في بلدان اللجوء لن يصدّق حكايته أحد. سيضجر المحققون من حكايته المكررة. أما في الجنة فإن حكايته تبدو معقولة. يقول له الملاك المسؤول عن أوراقه “ابق هادئاً. سأحيلك على طبيب نفساني”.
حتى في الآخرة سيكون على العربي أن يذهب إلى طبيب نفساني.
لقد أصابته أهوال تكفي لتدمير شعب، تكفي لتهشيم مجرّة. مع ذلك، يبدو كما لو أنه لا يزال ينتظر مفعماً بالأمل. يأسه هو نوع من الأمل. كآبته هي نوع من الأمل. لا يملّ العربي الانتظار. لقد خُلِق من مادة الانتظار.
مثلي تماماً، يوم كنت أسكن في قرية أسوجية صغيرة، كنت أذهب الى محطة القطارات الصغيرة يومياً وأنا أستمع إلى موسيقى باخ الكنسية من طريق سمّاعة ألصقها بأذني. أجلس يومياً على المصطبة الخشبية نفسها، التي غالباً ما تكون مبللة بالمطر، منتظراً قطاراً لن يحملني. مرةً واحدة، اقتربت مني الموظفة الوحيدة في المحطة وأخبرتني أن ليس هناك من قطار حتى صباح اليوم المقبل. بعدها صارت تمرّ بي من غير أن تكلّمني.
ما من قطار يقف العربي في انتظاره. فلا قطار للشهداء هناك في الأرض الغريبة. غير أن هناك ما يسلّي بالرغم من أن خبرة الألم تقول شيئاً مختلفاً. لذلك يحاول العربي أن يملأ الوقت الضائع الذي يمضيه في انتظار القدر بما يزخرف النسيان بشتى أنواع الشغف الزائف، غير أن ساعة ملقاة في مكان ما من نفسه، تظلّ تطلق ضرباتها لتذكّره بأن شيئا ما لن يغيّر من مصيره.
فلا الدين ينفع، ولا الجنس، ولا الخفر، ولا البراءة، ولا العصيان، ولا العزلة، ولا الخمر، ولا المال. هناك آلية تبعث على الأسى. حلقاتها تدور حول محور الخلاص الوحيد: الشهادة. المفهوم الديني الذي نفضت كل الأمم، حول العالم منه أيديها، لا يزال ساري المفعول في المخيلة العربية. بالنسبة إلى الملائكة، العربي الجيد هو من يقبل شهيداً. ستكون الطرق مزيّنة من أجله. الطبول والهتافات والزغاريد والابتهالات والأناشيد والدموع. سيقال إن الشهداء الذين سقطوا في خدمة الواجب، ينتمون إلى كل الطوائف، وهذا يعني أننا أمة واحدة. وحدة الأمة لا تتحقق إلا من خلال شهدائها.
سنصنع للشهداء وجوهاً، أقنعةً مناسبة للبطولة والبسالة والتضحية.
سيقال “إنها أمور روحية”، وهو قول ظاهره حقّ وباطنه كذب.
المراثي تكذب. المؤبّنون يكذبون. اللافتات السوداء تكذب. الجنازات الرسمية تكذب. لا شأن للروح التي ترتفع محلّقةً، بما يلاقيه الجسد الهائم على وجهه في حياة منسية من كدمات وحروق وثقوب. هناك مطعم شعبي منزوٍ في أحد أحياء بغداد، اسمه “مرحبا”. بين حين وآخر يلتقي فيه الجنود الفقراء بلابسي الأحزمة الناسفة ليسافروا معاً إلى الآخرة. لا أحد من الطرفين يهمّه أن يسأل عن هوية الشخص الذي يجلس منفرداً في أعماق ذلك المطعم. كان عزرائيل هو ذلك الشخص الذي يبدو منشغلاً بمقارنة الوجوه التي يراها للمرة الأولى بالصور التي تضمّها ملفاته، فلا يجد شبهاً. حيرته هي حيرتنا. حيرة كل عربي يخرج صباحاً إلى العمل بوجه، ليلاقي الموت بوجه آخر. في المسافة التي تفصل وجهاً عن الوجه الذي يليه، تمتد أصابع كثيرة لتصنع على عجل قناع الشهيد.
شهداؤنا هم ضحايا خيالنا الخرافي. هناك موت مجاني نغطّيه بمساحيق الشهادة.

* النهار اللبنانية

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *