الطيب ولد العروسي*
ثار الكثير من العلماء العرب والمسلمين ضد السلطة الحاكمة، وخطوا لأنفسهم طريقا مليئا بالمصاعب والهموم، لكنهم تحمّلوا مشاقه وناضلوا من أجل مبادئهم رغم كل العراقيل التي وجدوها في طريقهم، لاسيما من قبل الذين يدّعون أنهم ‘متدينون’ وهم مكبّلون بالنظرات الضيقة التي حصروا فيها الدين وراحوا يرونه من زاوية ما يدّعونه حلالا وحراما.
أو من تعنت السلطة التي منعت أفكارهم من الانتشار، فراحت تستعمل كل الوسائل لقمعهم وحصارهم ، في هذا الإطار يصنف مؤلف الباحث العراقي الدكتور إحسان قاسم الصالحي بعنوان : ‘نظرة عامة عن حياة بديع الزمان النورسي’، الصادر حديثا في القاهرة، عن منشورات شركة سوزلر للنشر، الطبعة العاشرة، يقع في 190 صفحة، ويحتوي على مقدمة، وثلاثة أقسام وملحق بالصور، حيث تناول فيه حياة ومسيرة العلامة المصلح النورسي المولود سنة ’1876′ في قرية ‘نورس′ الكائنة بولاية بتليس شرقي الأناضول بتركيا. اقتصرت دراسته في البداية على تعلم القواعد النحوية والصرف، ثم التعمق في قراءة العلوم المختلفة، راح ينتقل في القرى والمدن للتقرب من الأساتذة والمدارس ‘ويتلقى العلوم الإسلامية من كتبها المعتبرة بشغف عظيم’، فكان كل الأساتذة الذين درس عندهم قد اعترفوا له بذكائه المميّز و النادر، هذا علاوة على اهتمامه بأمهات الكثير من الكتب، مثل كتاب ‘جمع الجوامع′ في أصول الفقه الذي حفظه عن ظهر قلب في خلال أسبوع واحد.
انتشرت شهرته في تركيا، بل تجاوزتها إلى آفاق وعواصم وحواضر إسلامية أخرى ، وكان تنقله في المدن والقرى التركية – في أكثر الأحيان مرغما- يحدث صدى كبيرا لدى الناس، غير أن الدولة كانت تتبع خطواته وتحدّ من انتشار أفكاره، لتعلّق الناس به وبطريقة إقناعه في محاضراته، هذا العمل أدى به إلى زجه في السجن أو الإقامة الجبرية في الكثير من الفضاءات عدة مرات، وفي مناسبات مختلفة، بحيث بلغت فترات سجنه المتلاحقة 26 سنة، ملأ وقته فيها بمطالعة الكتب العلمية ‘لاسيما علم الكلام والمنطق وكتب التفسير والحديث الشريف والفقه والنحو حتى بلغ محفوظة من متون هذه العلوم نحو ثمانين متنا’. كما انكب في ‘مدينة ‘وان’ على دراسة كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ حتى ‘تعمق فيها إلى درجة التأليف في بعضها فسمّي بـ’بديع الزمان’ اعترافاً من أهل العلم بذكائه الحاد وعلمه الغزير وإطلاعه الواسع.’، مما ترك وزير المستعمرات البريطاني ‘غلادستون’ يصرّح في مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلاً: ‘ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به’…
كان هذا التصريح الخطير – رغم عنصريته ومحتواه الذي يحمل في ثناياه رسالة حقد وضغينة- بمثابة دافع قوي للأستاذ النورسي الذي أعلن بأنه سيبرهن ‘للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها’.. ولما انتقل إلى استانبول عام 1907 قدّم مشروعاً إلى السلطان عبد الحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرقي الأناضول، أطلق عليها اسم ‘مدرسة الزهراء’ – على غرار جامعة الأزهر في القاهرة- ومهمتها أنها تنهض بنشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم البحتة و الكونية، حسب تصريحه المشهور: ‘ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك’.
سبقته شهرته العملية إلى استانبول فجاء إليه الطلبة والعلماء من كل حدب وصوب، يسألونه وهو يجيب في كل علم يعرف فيه بطريقة مقنعة و نادرة. كما يعترف له بذلك كل من اهتموا بكتاباته.
انتقل سنة 1911 إلى بلاد الشام مواصلا عمله العلمي والديني المتفتح والذي دعي من خلاله إلى يقظة المسلمين وفهمهم الحقيقي للإسلام الذي يدعوا إلى الاهتمام بالعلم وبمنجزاته الحديثة، وإلى الحوار بين البشر من أجل مجتمع تسوده العدالة والمحبة والأخوة، وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى، تطوّع فيها هو وبعض طلابه ضد روسيا القيصرية ‘وعندما دخل الجيش الروسي مدينة ‘بتليس′ كان بديع الزمان يدافع مع طلابه عن المدينة دفاعاً مستميتا ‘حتى جرح جرحا بليغا وأسر من قبل الروس وسيق إلى معتقلات الأسر في سيبيريا’. وفي الأسر استمر في إلقاء دروسه الإيمانية على الضباط الذين كانوا معه والبالغ عددهم 90 ضابطاً ثم هرب من الأسر بأعجوبة نادرة’، ومنها عاد إلى استانبول إذ مُنح وسام الحرب واستقبل استقبالاً رائعاً من ‘قبل الخليفة وشيخ الإسلام والقائد العام وطلبة العلوم الشرعية. وكلّفته الدولة بتسلّّم بعض الوظائف’، لكنه رفضها كلها عاملا بمقولته الشهيرة ‘إنني أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة، وليس من وراء الخنادق، وأنا أرى مكاني هذا أخطر من الأناضول’، واصل ينشر بعض أعماله باللغة العربية نذكر منها : تفسيره ‘إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز′ الذي ألفّه في قلب المعارك. و’المثنوي العربي النوري’. كما اعتبر دخول الغزاة إلى استانبول ‘طعنة كبيرة وجّهت إلى العالم الإسلامي، ولذلك دخل معترك التأليف والنقاش الفكري، فبدأ بتأليف كتابه ‘الخطوات الست’ هاجم فيه الغزاة بشدة ‘وأزال دواعي اليأس الذي خيّم على كثير من الناس′ . وفي سنة 1922 ذهب إلى أنقرة، ومنها توجّه مرة أخرى إلى ‘وان’ اعتزل الناس في جبل ‘أرَك’ ‘القريب من المدينة طوال سنتين متعبداً ومتأملاً، ورغم ذلك لم ينجُ من شرارة الفتن والاضطرابات، فنفي مع الكثيرين إلى ‘بوردور’ جنوب غربي الأناضول. ‘ثم نفي وحده إلى ناحية نائية وهي ‘بارلا’ ووصل إليها في شتاء سنة 1926 . ‘فظن أعداء الإيمان أن سيقضى عليه هنا في ‘بارلا’ ويخمد ذكره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض’. ثم شرع في كتابة مؤلفه الكبير بعنوان ‘رسائل النور’ التي واصل تأليفها إلى غاية سنة 1950، بلغت والتي ’130′ رسالة، جُمعت تحت عنوان ‘كليات رسائل النور’ وهي ‘تضم أربع مجموعات أساسية هي: ‘الكلمات ، المكتوبات، اللمعات، الشعاعات…’ .بدأ فيها المؤلف من قراءاته وتمعنه في القرآن، سواء في فترات سجنه التي كانت صعبة ، كما يؤكد المؤلف على ذلك المؤلف ‘كانت عيون السلطة تترصّد الأستاذ وتراقب حركاته وسكناته في ‘بارلا’ لذلك فإن الأهالي كانوا يتجنّبون الاقتراب منه والتحدّث إليه، فكان يقضي أكثر وقته في البيت أو يخرج في فصل الربيع والصيف إلى جبال ‘اغريدير’، ويختلي بنفسه في قمة الجبل’.
أما الأنوار بالنسبة إليه فهي تعني تلك ‘المستقاة من قراءته و تمعنه لكتاب القرآن الكريم ، أي رسائل النور التي يعتبرها بأنها ‘ ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضا مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية’، وكان هذا المؤلف الضخم بمثابة بديل حقيقي لقساوة السجون سمح له بالتمعن في معاني ومقاصد القرآن، وقدم على شرحه بطريقة علمية، فرسائل النور كما يؤكد المؤلف ‘ليست رسائل اعتيادية لشرح مفاهيم الإسلام فحسب، وإنما هي (تفسير قيم للقرآن الكريم) بل هي تفسير يتصف بعدة خصائص معينة ومهمة جدا، قد لا نجدها مجتمعة هكذا في غيرها من التفاسير الأخرى في عصرنا هذا’ ، وهي تعتبر ‘قراءة للأحداث والمصائر التي أثرت الإسلام’ فإن قارئ رسائل النور (كما يؤكد على ذلك المؤلف) يكون قد ‘أحاط بأهم الحوادث التاريخية مع استنباطاتها وفقهها، وقد تذوقها تذوقا قلبيا وفهمها وأدرك مراميها عقلا’.
أما عن توافق المدارس الفقهية والمدارس الحديثة الصوفية فهو يدعوها للعمل معا من أجل ‘وحدة الهدف، وذلك بتبادل الأفكار، و ميل بعضها لبعض، وذلك لأننا نرى مع الأسف- تباين أفكارهم كما أنها تفرق الوحدة، وبذلك توقف الرقي والتقدم’. ولقد تطرق في هذه الرسائل إلى مختلف ميادين العلم: الفلسفة، الفقه، التاريخ، العلوم العقلية و النقلية، وكان يدعو باستمرار إلى النيل من العلم الذي يراه كلما تقدم ‘يصبح وسيلة لفهم أوضح للمسائل الإيمانية’، أي أن العلم والإيمان متلازمان في فهم الكون وفي تقدم المجتمعات.
أما عندما صنّف بعض النقاد مواقفه واجتهاداته في مدرسة المتصوفة فنراه ينكر ذلك بقوله ‘إنني لست بشيخ طريقة، فالوقت الآن ليس وقت طرق صوفية بل وقت إنقاذ الإيمان’. واعتبر ابن عربي مفكّرا خارج الإطار الاجتماعي.
ابتعد الشيخ عن السياسة واقتنع بأن عمله الوحيد هو الحياة البسيطة ومواصلة مشواره الذي آمن به خدمة للإسلام والعلم والعلماء ‘ليس لبديع الزمان فعالية سياسية، كما لا يوجد أي دليل كان على أنه أسس طريقة صوفية، أو قام بإنشاء جمعية، وأن مواضيع كتبه تدور كلها حول المسائل العلمية والإيمانية’
تزامن وجود العالم الشيخ النورسي مع نهاية حكم الإمبراطورية العثمانية ووصول أتاتورك إلى الحكم ومنعه الكثير من الممارسات الإسلامية واللغة العربية وتبديلها بالحروف اللاتينية، كما سبب مضايقات كل إنسان مستنير، وكانت تتم تلك المضايقات باسم نوع من العلمانية الشمولية، أي تمت ممارستها بالعنف، لأن العلمانية في أساسها تسمح للناس بممارسة شعائرهم وتعطيهم هامشا من الحرية للتعبير عما يخالج صدورهم، هذه المواقف وغيرها دفعت بمختلف الأنظمة التركية المتوالية إلى شد الخناق على الأستاذ والدفع به إلى السجون، وتلفيقهم له تهم غير مبررة، لكنه واصل مشواره حتى آخر لحظة من حياته.
توفي في 23 آذار 1960. بعد حياة مليئة بالعطاء والتحدي .
تجدر الإشارة إلى أنه حتى في قبره لم يمنع السلطة من تغيير رفاته من مكان لآخر، وهذا ما وقع بعد الانقلاب العسكري في تركيا يوم 27/5/ 1960 حيث قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام النورسي إلى جهة غير معلومة. وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسي نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته، بعد خمسة أشهر من وفاته، فقد قالوا له: ‘سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفه’. فقد بقي مطاردا حيا و ميتا لأن هؤلاء الانقلابيين قاموا بهدم قبر الشيخ بديع الزمان، حيث يؤكد شقيقه قائلا: ‘لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكن ما إن لمست الكفن، حتى خيل إليّ أنه قد توفي بالأمس. كان الكفن سليما، ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء’.
هذا مآل العلماء الكبار الذين انتقدوا بل وتحدوا السلطة القمعية بمختلف أشكالها، بحيث تذكرنا مسيرة الرجل ببطل الهند غاندي الذي اختار طريقة سلمية للتعبير عن أفكاره و بها استطاع أن يعطي درسا للانجليز، كما ترك عائلة وطنية واصلت كفاحها ضد القمع والاستغلال. أما العالم الشيخ النورسي فقد سار على درب علماء الإسلام الذين أبهروا العالم بحقيقة التفتّح الديني، وبأطروحات الرجل المتطورة التي خلخلت أنظمة القمع الدكتاتورية التي توالت على الحكم في تركيا أثناء حياته.
تجدر الإشارة إلى أن الدكتور إحسان قاسم الصالحي تخصّص في التراث الفكري للشيخ النورسي، وترجم جلّ أعماله المكتوبة باللغة التركية إلى اللغة العربية، كما ترجم مؤلفه المرجعي بل الأساسي ‘رسائل النور’ المتكون من عشرة أجزاء إلى اللغة العربية، هذا علاوة على اهتمام الباحثين بالشيخ النورسي في أوروبا وترجمة بعض أعماله إلى لغاتها، دون أن ننسى تقديم الكثير من الأبحاث الجامعية حوله، كما أنشئت جمعية دراسة وبحث في استانبول لتحقيق مخطوطاته التي لم تطبع بعد، لأن طلبته في وقته نساء ورجالا هم الذين كانوا نسخوا أعماله ووزعوها سرا في أرجاء تركيا، إذ يؤكّد المؤلف بأن السلطة ورغم متابعاتها له فإنها لم تستطع ‘منع محبيه من تحمّل كل الصعوبات’ من أجل بقاء أعماله حية تتداول بين الناس بمختلف شرائحهم الاجتماعية
* القدس العربي – لندن