عباس بيضون *
عندما ينزل إلى الساحة ثلاثون مليوناً يمكننا التساؤل أين يكون الجيش من كل هذا، هل يكفي أن نقول إنها ثورة شعبية ساندها الجيش، أو بلهجة أكثر أبوية الجيش استجاب لها، الجيش أصغى لشعبه. هذا السؤال يعنينا نحن الذين لا نعيش هذا الالتباس. حمل الربيع العربي الإسلام السياسي إلى الحكم في غير بلد عربي. يمكننا القول إنها ساعة الإسلام السياسي. إن هذه مرحلته. لكن الإسلام السياسي الخارج من الدهاليز والمنافي والتجارب المتعسرة يصل إلى السلطة في كل مكان بسهولة ظاهرة، وما أن يصل حتى يبدأ معركة لا تهدأ، لا يرتاح ولا يستقر يوماً واحداً. تتسارع عليه الأحداث وتتجاذبه الظروف التي تفعل بقدرة شبه عجائبية تقاس بالشهور والأسابيع لا بالسنوات. الأرجح أن ما يواجهه الإسلام السياسي هو إرث من القيم والمسالك والتقاليد تجمع عقوداً بعد عقود وكوّن خلال ذلك ردوداً وعقليات وحقوقاً وأوضاعاً، يمكننا القول إن كل ذلك يمكن أن يحمل اسم الراهن أو الواقع كما يمكن ان يحمل اسم العصر، يصطدم الإسلام السياسي بأنماط عيش وقوانين وحقوق ويبدو مشروعه أكثر فأكثر بلا مكان. يبدو فوراً ان إسلامه نفسه يصطدم بالتقليد الإسلامي وبالإسلام الشعبي، حتى ان الذين شاركوه في الانتماء إلى الإسلام لا يقاسمونه فهمه له، ناهيك عن ان الإسلام السياسي لا يقدر بسهولة على أن يضيف إلى الإسلام سلوكاً يبدو موغلاً في حلقيته، موغلاً في انكفائه إلى جماعته واحتباسه فيها. من السهل أن يبدو هذا لا مخالفاً للإسلام فحسب بل مخالفاً أيضاً لفهمه هو للإسلام ومتعارضاً مع ما يدّعيه. أي أن الإسلام السياسي، وهو في الحكم يبدو أقرب إلى شيعة منعزلة، بعيد جداً من أن يتسلم مقاليد أمة أو دولة. لنقل إن الإسلام السياسي الصاعد يصطدم بسرعة خارقة بعصره ومجتمعه ويسقط في تناقض مع نفسه يكاد يبلغ الرياء. إن كل مشروعه الدولتي وكل تبشيره بالحكومة الإسلامية يبدوان فجأة هوائيين وبدون أساس.
لا يحمل الإسلام السياسي هكذا إلى جمهوره سوى الخيبة والإحباط. لقد ظل وقتاً طويلاً حلماً وأملاً ووعداً، ولم يفترق حين حلت ساعته عن السلطات التي سبقته. لم يختلف عنها الا بمزيد من القيود ومزيد من العثرات ومزيد من التناقض مع النفس. لقد بدا، من الساعات الأولى متعثراً متأرجحاً غير قادر على الخروج من حلقته وجماعته، بل بدا، إذا كان المثال هو الإخوان، نهماً إلى الاستيلاء وإلى قضم الدولة وابتلاعها. لم يكن هذا النهم مختلفاً عن جشع العهد الذي سبقه، لكن الثورة هي التي حملت الإخوان إلى السلطة، الثورة التي أخرجت الشعب من استسلامه وردت إليه إرادته وجعلته حساساً ومراقباً واعياً. ماذا ستكون ردة الشعب وهو يرى جشع الإخوان وحلقيتهم. ماذا ستكون ردوده وهو يرى الإخوان يتنعمون وحدهم بثمار السلطة ويتمتعون بالوظائف ويحولون الدولة حديقة لهم. ماذا سيكون رده سوى الضغينة والضغينة وحدها.
إذا ركزنا على كلمة الضغينة، أمكن لنا ان نفهم ردود الشعب المصري تجاه الإخوان، الضغينة هي التي تفسر نزول الملايين إلى الشارع. لقد كرهوا مَن كسف أحلامهم، كرهوا من داس عليها، من انتظروه طويلاً وجاء أخيراً ليكون أسوأ من غيره. نزل الناس بالملايين. كان للحركة زخمها الهائل. جاءت سريعة ومباغتة ومدوية. كانت عيون الناس جميعاً على مصر، هنا الاختبار الأكبر وهنا المثل، بالملايين التي نزلت شلت الإخوان بمجرد هذا النزول بدت شرعيتهم منقوصة، مجرد هذا النزول اهتز الإسلام السياسي كله وفي غير مكان. كان كل شيء جاهزاً لكشف الإخوان، لتعريتهم من شرعيتهم، لتعريتهم من ادّعائهم العقائدي نفسه، كان كل شيء جاهزاً للحكم على تجربة الإسلام السياسي، لتقرير أمره، فقط كان ينبغي ان نترك للزمن أن يفعل، أن يأخذ مداه. لا أعرف ما إذا كان خطر الحرب الأهلية ماثلاً ذلك اليوم. سيكون خطر الحرب الأهلية أقوى إذا تمّ اقتلاع الإخوان من السلطة كما حدث. كان عزل مرسي سيبدو واقعاً وسيستحيل عليه الحكم والشارع يرفضه، والشعب يرفضه، كان ينبغي ترك ذلك ينضج ويكتمل. كان ينبغي ترك حكم الإخوان يتعرى تماماً ويغدو بلا أساس، يتراءى لي أن الجيش استعجل التدخل. يتراءى لي أنه بالطريقة التي تدخل فيها (عزل رئيس منتخب) أعطى لهذا الرئيس وللحكم الإخواني ما يقولونه ويتظلمون منه، كان الإخوان المنبوذون من الشعب بحاجة إلى هذه الحجة (الشرعية). لقد أعطاهم هذا سبباً ليبقوا في الشارع ولولاه لما قيّض لتجربتهم أي أفق، وأي مدى.
* السفير