*ابراهيم العريس
ذات يوم عند أواسط القرن التاسع عشر، كان الكاتب والفيلسوف الأميركي هنري دافيد ثورو في السجن ينفذ عقوبة صدرت في حقه. وحدث يومها أن زاره صديقه وأستاذه الشاعر الكبير أميرسون. وما إن التقيا عبر القضبان حتى صرخ هذا الأخير بالكاتب السجين: «هنري… ماذا تصنع هنا خلف القضبان؟»، فكان جواب ثورو سؤالاً طرحه بدوره على صديقه، ولكن في لهجة أكثر استنكاراً: «بل أنت يا والدو… ما الذي تصنعه خارج القضبان؟». ولم يكن ذلك الحوار بين الاثنين عبثياً أو كافكاوياً، لأن ثورو كان يقصد بالتحديد أن يذكّر صديقه وأستاذه بأنه، أي أميرسون و «كل فرد آخر ممن يؤمن بحقوق الإنسان الطبيعية وفي حريته الفردية، لا يجوز له أن يستسلم لدولة تجنح عن طريق الصواب كما يمليه الضمير الحر، وإن أدى به عصيانه إلى السجن»، أو هذا على الأقل ما يمكننا أن نفهمه من ذلك «الحوار» وفق تفسير الدكتور زكي نجيب محمود في دراسة له عن «هنري دافيد ثورو والفردية المتطرفة». ولئن كان مفكرنا العربي أصاب في تفسيره الحوار بين أميرسون وثورو، فإنه لم يكن دقيقاً في العنوان الذي أعطاه لدراسته. إذ صحيح أن ثورو كان يدعو إلى الـــفردية… ولكن، ليس إلى فردية متطرفة، هو الذي كان لسان حاله يقول دائماً إن «الحياة الطليقة في ظــــل حكومة ظالمة هي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدلاً». في كتاباته كلها، خصوصاً في نصه الأشهر، والذي كان ذا تأثير كبير على الكثير من الحركات الاحتجاجية في القرن التاسع عشر، «مقالة عن العصيان المدني»، لم يكن ثورو يدعو إلى أية فردية مطلقة بل إلى ثورة من دون عنف، وإلى عدالة اجتماعية من دون ضغوط. وهو في هذا الإطار كتب في واحد من فصول نصه الشهير «مقالة عن العصيان المدني» يقول: «إن القول إن الفرد خلق ليعيش في مجتمع أكذوبة كبرى، والعكس هو الأقرب إلى الصواب، فقد خلق المجتمع من أجل الفرد (…). إن الناس يريدون أن يحتفظوا بما يسمونه سلامة المجتمع – بسكوتهم عما يُقترف باسم القانون – من أعمال العنف كل يوم. فانظر إلى الشرطة وما تحمل من عصي وما تعده للناس من أغلال. انظر إلى السجون والمقاصل (…) إننا نعطي الحكم للغالبية لا لأنها أكثر منا حكمة، بل لأنها أقوى منا بكثير».
> إزاء مثل هذه الآراء الواضحة هل سيكون غريباً أن نرى المهاتما غاندي، محرر الهند في القرن العشرين، يصرّح دائماً وعلناً بأن أفكار هنري دافيد ثورو شكلت مكوناً أساسياً من مكوناته الفكرية؟ غير أن غاندي لم يكن الوحيد الذي «أعاد اكتشاف» ثورو في القرن العشرين، ذلك أن أنصار البيئة المتكاثرين عدداً وقوة خلال النصف الثاني من القرن المنصرم بدوا منذ وقت مبكر أنهم إنما يتبنون أفكار ثورو الطبيعية المبكرة، سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا به. ففي كتابين له على الأقل، وهما «والدن… أو الحياة في الغابات» (1849) و «غابات مين» (1864) أشار ثورو إلى الطريق القادرة على إنقاذ البشرية: الطريق إلى أحضان الطبيعة وأسلوب الحفاظ على البيئة. لقد كان هذان الكتابان من أهم ما كتب ثورو، غير أن ما يهمنا هنا إنما هو كتابه عن «العصيان المدني».
> هذا الكتاب الذي وضعه هنري دافيد ثورو ونشره في عام 1849، كان عنوانه في الأصل «مقاومة الحكومة المدنية» لكنه سرعان ما بدل عنوانه بسبب ما قد يبدو في هذا العنوان من التباس، كما قال لاحقاً. أما الموضوعة الأساسية في الكتاب فهي «حق الفرد في الخروج على الدولة»… ولكن ليس أي دولة ولا كل دولة بالطبع. وهذا الأمر توضحه طبعاً، ظروف وضع الكتاب، في شكل بيان سياسي آنيّ. فالواقع أن ثورو كتب هذا الكتاب بعد أن رأى أمته التي كان يؤمن بقيمها كثيراً، ويؤمن بأفكار مؤسسيها الإنسانية «تنحرف عن العدالة والحق» كما يراهما، وذلك «في حرب المكسيك، وفي مسألة العبيد، وفي معاملة الهنود الحمر ســكان البلاد الأصليين». هكذا، إذ أمعن المفكر النظر – كما سيؤكد لاحقاً – في مجـــمل هــــذه القضايا اتخذ بينه وبين نفسه قراراً حاسماً فحواه أن من حقه ألا يدفع الضرائب إلى الحكومة، معلناً، بذلك احتجاجه، فكان أن سجن. وهو لم يطلق سراحه إلا بعد ذلك حين تقدم عــــدد من أصدقائه ودفعوا الضريبة عنه. غير أن هذا لم يمنع السؤال الأساسي من أن يظل قائماً في نظره: هل للفرد حق الامتناع عن دفع ضرائبه إلى الحكومة إن هو وجدها انحرفت عن الحق والعدالة؟ وللإجابة على هذا السؤال، كان الكتاب.
> رأى ثورو في كتابه أن للفرد هذا الحق «لأنه منضوٍ تحت سلطة الدولة (أو بالأحرى: الحكومة) باختياره، وتبعاً لشروط تعاقدية معينة»، لذلك فإنه «وباختياره، وكردٍّ على إخلال الدولة بتلك الشروط، يمكنه الانشقاق عنها والخروج عليها». بل إن ثورو رأى أن ذلك ليس من حق الفرد فقط، بل من واجبه أيضاً. وإلى هذا قال ثورو في صفحات كتابه، على سبيل الاستنتاج إن «أفضل الحكومات هي حكومة لا تحكم على الإطلاق. وهذه الحكومة هي التي ستكون حكومة الناس في المستقبل، شرط أن يعدّ الناس أنفسهم لها». أما الدولة الحرة المستنيرة فإنها «لن تقوم، بمعناها الصحيح، إلا إذا اعترفت هذه الدولة بأن الفرد قوة عليا مستقلة في ذاتها، تستمد هي منه كل ما لها من قوة وسلطان». وإذ يصل ثورو إلى هذا الحد من تفكيره يتساءل: «أليس من الجائز أن يصيب الفرد وتخطئ الحكومة؟ هل يجب أن نفرض القوانين على الناس فرضاً، لا لشيء إلا لأنها صيغت على هذا النحو، ولأن نفراً من الناس قد قرر أنها على صواب؟ هل ثمة ما يحتم على الفرد أن يكون أداة تنفذ عملاً لا يوافق عليه؟» ويخلص ثورو موجهاً كلامه إلى المجتمعات قائلاً: «لا يتعين أن تعلّموا الناشئة احترام القانون بمقدار ما ينبغي أن تعلموهم احترام الحق. إن النتيجة الحتمية لاحترام القانون بغير ما هو موجب، هي أن نرى الأفراد المجنّدين في هذه الصفوف من الضباط والجنود يســـيرون في نظام عجيب غريب وانضباط أعجب وأغرب، فوق السهول والجبال، إلى حـــومات القتال على رغم إرادتهم. نعم، على رغم إرادتهم وعلى رغم إدراكهم الفطري الســـليم، وعلى رغم ما تمليه عليهم ضمائرهم… والحال أن هذا الإدراك الواعي هو ما يجعل سيرهم هذا شاقاً عسيراً، أشد ما يكون العسر والشقاء… يجعله سيراً تلهث منه القلوب».
> ولد هنري دافيد ثورو عام 1817 في مدينة كونكورد في ولاية ماساتشوستس الأميركية. ومنذ شبابه صار تلميذاً لوالدو أميرسون وصديقاً له. وهو عرّف نفسه ذات يوم بقوله «أنا متصوّف، تجاوزي وفيلسوف طبيعة من قمة رأسي إلى أخمص قدميّ». وهو على غرار غيره من المؤلفين الأميركيين تنقل بين مهن عدة، على رغم أنه لم يعش سوى 45 عاماً، قضى معظمها نزيل الغابات في أحضان الطبيعة يعيش متفرداً مهتماً بدراسة النباتات والحيوانات، وهو ما عبر عنه في معظم كتبه. غير أنه قبل ذلك، ومنذ عام 1843، كان شديد الاحتجاج على حرب المكسيك الظالمة وعلى سوء معاملة العبيد وإفناء الهنود الحمر… ما أدى إلى سجنه. ولم يكن من الصدفة أن يكون الكتّاب الإنكليز، لا الأميركيون، أفضل وأول من اكتشف فلسفة ثورو. أما أعماله، لا سيما يومياته (14 مجلداً) وكتاباته المختارة فلم تنشر على نطاق واسع إلا مع بداية القرن العشرين، أي أربعين سنة بعد موته في عام 1862.
_________
*(الحياة)