سيلڤيا پلاث:أشياء من الصعب الكتابة عنها




تيد هيوز *ترجمة: محمد الضبع

(يتحدث تيد هيوز زوج الشاعرة الشهيرة سيلڤيا پلاث عن مذكّراتها ويقدّم لها ليكشف خلال حديثه عن الانتقال الروحي الذي مرّت به الشاعرة. ونستعرض بعد مقدمته  مختارات من مذكّراتها.)

ماذا كانت تريد سيلڤيا پلاث؟ لماذا انتحرت؟ ربما لو كانت في ثقافة مختلفة عن ثقافتها، لكانت أكثر سعادة. هنالك شيء متعلّق بها يذكّرنا بما قرأناه عن العشّاق المتعصّبين لحب الله في الإسلام -الشغف والرغبة في التجرّد من كل شيء، من الكثافة النهائية، من الالتحام بالروح، أو بالواقع، أو ببساطة من الالتحام بالكثافة نفسها. لقد أظهرت پلاث طبيعتها العنيفة، البدائية، والأنثوية أيضًا، لقد أظهرت التأهب، والحاجة إلى التضحية بكل شيء للحصول على ولادة جديدة.
كانت هذه طريقتها الواضحة في التشكّل. ومرّت هذه الطريقة بعدة مراحل، كانت المرحلة السلبية لها عندما انتحرت. ولكن المرحلة الإيجابية (والمتداولة أكثر ضمن سياق المصطلحات الدينية) هي موت الذات المزيّفة القديمة، وولادة ذات أخرى حقيقية. وكان هذا ما حققته پلاث أخيرًا بعد عملية مخاض طويلة ومؤلمة.
قصائدها الأخيرة تجعلنا نسمع صوت هذه الذات الجديدة. إنها الدليل على وصولها. كل ما كتبته پلاث خارج هذه المذكرات كان عبارة عن خسائرها التي خسرتها لأجل إتمام عملية الحمل.
كانت پلاث امرأة ذات أقنعة عديدة، في حياتها الشخصيّة وفي كتابتها. بعضها كانت أقنعة زائفة مبتذلة للتمويه فقط، تستخدمها بشكل لا إرادي كوسائل دفاعية. وبعضها كانت مدروسة بعناية، تستخدمها للبحث عن مفاتيح للأشكال التي تريدها.
لقد عشت معها ست سنوات كاملة، لم أفارقها خلالها يومًا إلا عند ساعات النوم، ولم أرها وهي تكشف عن ذاتها الحقيقية لأي أحد، عدا في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياتها.
مذكراتها محفوظة في عدد من الأوراق الغير منظمة. هذه المختارات تمثل بعضًا منها فقط، وكتبت فيها سيلڤيا حتى آخر ثلاثة أيام في حياتها. وبعض المذكرات مفقودة لأنني تخلصت منها بنفسي في ذلك الوقت، لم أكن أريد لأطفالها أن يقرأوها (في تلك الأيام كان النسيان جزءًا من محاولتي للنجاة).
تيد هيوز
*
“بعد أن قضمنا الحياة كتفّاحة لامعة، أو، بعد أن لعبنا بها مثل سمكة، بعد أن جرّبنا السعادة، بعد أن لمسنا بأصابعنا السماء وشعرنا بزرقتها، ماذا تبقّى أمامنا لننتظره؟ ليس شفق الآلهة بل الفجر الدقيق المصنوع من الطوب الرماديّ الشاحب ومن صبية الجرائد وهم يبكون الحرب.”
لويس مكنيس
“نبدأ بالحياة فقط عندما نفهمها على أنها مأساة ….”
ويليام بتلر ييتس
“تمسّك بالآن، بالـ هُنا، حيث يغرق كل المستقبل في الماضي ….”
جيمس جويس
كانت هذه الاقتباسات مكتوبة كما هي في مذكرات سيلڤيا پلاث الأصليّة.
___________
سيلڤيا پلاث في حقل الفراولة 
“يوليو 1950. ربما لن أصبح سعيدة أبدًا، ولكنني الليلة مطمئنة. لا شيء لدي سوى منزل فارغ، والإرهاق الدافئ الذي أصابني بسبب اليوم الطويل الذي قضيته وأنا أزرع نباتات الفراولة تحت الشمس، كأس من الحليب البارد اللذيذ، وقليل من التوت البري العائم في القشطة. الآن أصبحت أعرف كيف يتمكن الناس من العيش دون كتب، دون دراسة. عندما تتعب لهذه الدرجة عند نهاية اليوم، عليك أن تنام مباشرة، وعند فجر اليوم التالي ستكون أمامك نباتات فراولة أخرى لتغرسها، وهكذا تستمر بالعيش، قرب الأرض. في أوقات كهذه سأكون مغفّلة لو طلبت المزيد.
آيلو سألني اليوم في حقل الفراولة، “هل تحبين رسّامي عصر النهضة؟ رافاييل ومايكل أنجلو؟ لقد نسخت بعض أعمال مايكل أنجلو مرة. وما رأيك في بيكاسو؟ … هذا الرسام الذي يصنع الدوائر ويرسم عصا صغيرة بالأسفل لتكون قدمًا؟” لقد عملنا بجانب بعضنا في صفوف الحقل، وكان هادئًا معظم الوقت، ولكنه ينفجر أحيانًا بطريقة مفاجئة ويحادثني بلهجته الألمانية الغليظة. يقف، يبتسم بوجهه الحاد الملامح. جسده الممتلئ بالعضلات يصبح برونزيًا، وشعره الأشقر مطوي أسفل وشاح رقبته. “أتحبين فرانك سيناترا؟ إنه حساس جدًا، إنه رومانسي جدًا، كضوء القمر ليلًا، چا؟”
لمحة من ضوء أزرق مائل تعبر بلاط غرفة شاغرة. علمت حينها أن هذا الضوء ليس من الشارع، بل من القمر. أهناك شيء أجمل من أن أكون عذراء، شابّة، نظيفة وغير ممسوسة في ليلة كهذه؟ … (أن أتعرّض للاغتصاب.)*”
“اليوم هو الأول من أغسطس. الجو حار، رطب ومليء بالبخار. إنها تمطر. أنوي كتابة قصيدة. ولكنني تذكرت ما تقوله: بعد هطول المطر الغزير، كل القصائد المسمّاة “مطر” ستبدأ بالانسكاب من أنحاء البلاد البعيدة. 
معي، يكون الحاضر لا نهائيًا، واللانهائيّ متغيّر دائمًا. يتدفّق، يذوب. هذه اللحظة هي الحياة. وعندما تنتهي، تصبح ميتة. ولكنك لا تستطيع أن تبدأ من جديد مع كل ثانية جديدة، عليك أن تقيس وتقارن بما هو ميت. الأمر يشبه الرمال المتحرّكة … لا أمل لها منذ البداية. بإمكان قصة، أو صورة أن تجدد الشعور ولو قليلًا، ولكن ليس بما يكفي، ليس بما يكفي. لا شيء حقيقي سوى الحاضر، وأنا أشعر تلقائيًا بثقل القرون وهي تجثم على صدري. فتاةٌ ما قد عاشت قبل مئة عام كما أعيش الآن. وهي الآن ميّتة. أنا حاضرها، وأعلم أنني سأعبر مثلها. اللحظة العالية، النور خاطف، النور يظهر ويختفي بسرعة، الرمال متحرّكة لا تتوقف. وأنا لا أريد أن أموت.”
*
“هنالك أشياء من الصعب الكتابة عنها. عندما تتعرض لتجربة ما، وتذهب وتحاول أن تكتبها، إما أن تبالغ في وصفها، وإما أن تقلل من قيمتها، إما أن تضخّم الأجزاء الخاطئة، أو تتجاهل الأجزاء الهامة. وفي كل الأحوال، لا تنجح أبدًا في كتابتها بالطريقة التي تريد. لقد وصلت للتو وأريد أن أكتب ما حدث لي هذه الظهيرة. لا أستطيع إخبار والدتي؛ ليس الآن على كل حال. كانت في غرفتي عندما وصلت إلى المنزل، تعتني بالملابس، ولم تلاحظ حتى أن شيئًا ما قد حدث. استمرت بالتوبيخ والثرثرة ولم أستطع إيقافها لأخبرها. مهما كانت الطريقة التي سأختارها، عليّ أن أكتبها.
كانت السماء تمطر طوال الظهيرة على الحقل، وكنت أشعر بالبرد والبلل، شعري أسفل منديل الحرير، وأرتدي سترة تزلج حمراء فوق قميصي. لقد عملت بجد وأخذت معي كمية من محصول اليوم. الجميع غادر المكان حين وصلت الساعة إلى تمام الخامسة مساءً، وكنت وحدي أنتظر على جانب الطريق ليوصلني أحد إلى المنزل. جاءت كاثي، وصعدت على دراجتها ونادتني، “ها هو آيلو يقترب.”
نظرتُ، وكنت متأكدة بما يكفي أنه يقف هناك، يقترب من أعلى الطريق في قميصه البنّي المخضر، ووشاحه الأبيض الحريري المألوف مربوطًا حول رأسه.
كان آيلو قد أعطاني رسمًا للمزرعة، فيه كل تفاصيل الحقل الدقيقة. والآن يعمل على رسم آخر لأحد الصبية. فبادرت بسؤاله، “هل انتهيت من رسم جون؟” ابتسم وقال: “أوه، نعم، نعم. تعالي وانظري. إنها فرصتك الأخيرة.” فذهبت معه إلى الإسطبل حيث يعيش.
في الطريق، ذهبنا إلى ماري لنوصل لها القهوة. وشعرت بها وهي تنظر لي بغرابة. ولسبب ما لم أستطع النظر إلى عينيها. نظر إليها آيلو وألقى عليها التحية. وردت عليه ماري بطريقة باردة وبصوت خافت.في طريقنا أيضًا صادفنا جيني، سالي، ومجموعة من الأطفال الذين كانوا يحتمون بسقيفة الشاحنات. خفضت رأسي وتابعت المشي وأنا أنظر للأرض.
ثم وصلنا إلى ألإسطبل كان المكان ضخمًا، مساحة عملاقة مرتفعة السقف، ورائحة الخيول والقش الرطب تملأ المكان. وفي الداخل كان كل شيء معتمًا؛ ظننت أنني شاهدت جسمًا لرجل في الطرف الآخر من الإسطبل، لكنني لم أكن متأكدة. ودون أن يتحدث بكلمة، بدأ آيلو بتسلّق مسار ضيّق من السلالم الخشبيّة. سألته: “هل تعيش في الأعلى؟ فوق كل هذه السلالم؟” استمر بالصعود، فتبعته، وترددت عندما وصلت للقمة. لكنه ناداني: “تعالي، تعالي،” وقام بفتح الباب. وإذا بالرسم الذي أخبرني عنه أمامي في غرفته. تجاوزت عتبة الباب. كانت الغرفة ضيّقة تحتوي على نافذتين، طاولة مليئة بالرسوم، وسرير مغطّى بلحاف غامق اللون. جهاز راديو وقليل من الحليب والبرتقال على الطاولة. أمسك بالرسم وأعطاني إياه. كان رسمًا جميلًا لوجه جون.
مازلت أتذكر حتى الآن كيف أغلق آيلو الباب، كيف وضع الموسيقى. كيف كان يتحدث بسرعة فائقة، ويريني قلم الرصاص الذي يستخدمه: “أترين، هنا رأس القلم بإمكاني أن أضعه على أي مقاس أريده.” كنت مدركة تمامًا لدرجة القرب بيننا. زرقة عينيه كانت تقترب مني بشكل مذهل، تنظر إليّ بجرأة، وكأنها تضحك. بادرته قائله: “علي الذهاب الآن. الجميع بانتظاري. كانت اللوحة جميلة.”
ابتسم، ووقف بيني وبين الباب. وبحركة سريعة طوّق ذراعه حولي. وفجأة أصبح فمه على فمي، عنيفًا، شديد العنف، ولسانه ينفذ كالسهم بين شفاهي، ويداه كالحديد حول جسدي. “آيلو، آيلو!” لا أعلم هل كنت أصرخ أم أهمس، لكنني كنت أقاوم كي أتحرر منه، يداي كانتا تتحركان بسرعة وعبث أمام قوته العظيمة.
في النهاية تركني، وتراجع للخلف. وضعت يدي على فمي، لقد تغيّر، لقد أصبح دافئًا بسبب قبلته. نظر إليّ بتساؤل وبشيء من التعجّب لرؤيته لي وأنا أبكي، وأنا خائفة. 
لم يقبّلني أحد بهذه الطريقة من قبل، وقفت هناك أشعر بالرغبة، بالكهرباء وهي تعبر جسدي. “لماذا، لماذا؟” وأصدر صوتًا يوحي بتعاطفه وربما استخفافه. “سأحضر لكِ القليل من الماء.” وناولني كأس الماء، فشربته بسرعة. ثم قام بفتح الباب، واتجهت كالعمياء إلى الدرج، حتى خرجت ومررت بجانب مايبيل وروبرت، وبقية الأطفال، الذين نادوا اسمي بالطريقة المميزة التي ينطق بها الأطفال الكلمات. ومررت أيضًا قرب ماري، لو، ووالدتهما الذين وقفوا جميعًا هناك، في صمت، وفي حضور مظلم.
وقفت على الطريق، بينما كانت شاحنة تعبر أمامي قادمةً من وراء الإسطبل. لقد كان بيرني … الفتى الكريه والقصير، صاحب العضلات الذي يعمل في غرفة الغسيل. كانت عيناه تلمعان بفرح خبيث، واستمرّ في القيادة بسرعة، فلم أستطع اللحاق به.
هل كان في الإسطبل طوال الوقت؟ هل رأى آيلو وهو يغلق الباب؟ هل رآني أخرج منه؟ أظن أنه قد رأى كل شيء. انطلقت بسرعة إلى غرفة الغسيل حيث السيارات. فنادى عليّ بيرني بصوت مرتفع: “لماذا تبكين؟” لكنني لم أكن أبكي. جاء كيني وفريدي معًا على إحدى القاطرات. وخلفهما مجموعة من الصبية العائدين إلى منازلهم، نظر إليّ الجميع وفي أعينهم ضوء لامع، حتى سألني أحدهم وعلى وجهه ابتسامة واثقة “هل قام بتقبيلك؟”.
شعرت بأنني مريضة. لم أكن أستطع التحدث أو الرد. صوتي كان مسجونًا في حلقي، غليظًا ومليئًا بالفرو.
جاء بعدها السيد تومبكِنز إلى المضخّة ليراقب كيني وفريدي وهما يعملان على سيارة المخزن القديمة. لقد كانا لطيفين، لكنهما يعلمان ما حدث. الجميع بالتأكيد كان يعلم ما حدث.
وقفت هناك، ضممت ذراعيّ إلى بعضهما، أحدّق في المحرّك الصاخب، أبتسم كما لو أن شيئًا لم يحدث.
جلس مِلتون إلى جانبي على مقعد السيارة لنذهب إلى المنزل. تولّى ديفيد القيادة، وكان آندي يجلس في المقدمة معه. جميعهم كانوا ينظرون إليّ وفي أعينهم ضوء راقص. بادر ديفيد وقال لي بصوت حازم متصنّع، “الجميع في غرفة الغسيل كانوا يشاهدونكِ وأنتِ تدخلين إلى الإسطبل، ويتبادلون الدعابات.”
مِلتون سألني عن اللوحة. فأجبته بأننا تحدثنا قليلًا عن الفن والرسم.
لقد كانوا جميعًا لطفاء معي. ربما كانوا يتوقعون مني أن أبكي. لكنهم كانوا يعلمون بما حدث رغم كل شيء، كانوا يعلمون.
الآن أنا في المنزل. وغدًا سيكون عليّ مواجهة كل مَن في المزرعة اللعينة. يا إلهي، ربما كان هذا مجرد حلم. بالكاد أستطيع تصديق أنه حدث. ولكن اسمي غدًا سيكون على لسان الجميع. آه كم أتمنى لو كنت ذكيّة، أو مراوغة، ولكن الحقيقة أنني خائفة جدًا. ليته لم يقبّلني. عليّ الآن أن أكذب وأقول بأنه لم يفعل. لكنهم يعلمون. جميعهم يعلمون. ومن أكون أنا ضد كلّ هولاء …؟
__________
* شاعر ومترجم سعودي . عن مدونته (معطف فوق سرير العالم) التي يترجم فيها كل أسبوع، للحفاظ على لياقة الحياة . 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *