* أيمن رفعت
عانى أبناء القارة السمراء أيما معاناة من التمييز العرقي منذ أقدم العصور، ومن يقرأ تراثنا العربي يجده مليئا بالنماذج الشعرية ويأتي في مقدمتهم صاحب المعلقة الشهيره عنترة بن شداد الذي كان رمزا للقوة والفروسية في مجتمع قنن تجارة الرقيق واعتبرهم أقنانا يبيع فيهم ويشتري ويمتلك ويتصرف، ولكن هذا الكتاب (في الشعر الأفريقي المعاصر) في مجمله يستعرض ويترجم لتجارب شعرية ونصوص حديثة تستمد مدتها من الشعر الأفريقي المأخوذ من أفواه رواده المعاصريين، واتخذت الدراسة من سنغور وسيزيروداماس نماذج طليعية لشعر ” الزنوج” الأفارقة كما أطلق عليهم د.حسن الغرفي، الذي يسعى من خلال هذا الكتاب إلى فتح نافذة إبداعية على واحد من أكثر آداب الشعوب أصالة وتنوعا وغرابه، خصوصا أن المكتبة العربية تفتقر إلى كتب ودراسات حول الأدب الأفريقي والأدباء الأفارقة، إذ قليلة ونادرة هي الكتب العربية التي تعرضت له.
يقول المؤلف: إن استخدام كلمة “الزنوج” المستعملة اليوم عادة في المجال الثقافي لعالم السود، وهي من ابتكار المارتنيكي إيمي سيزير الذي نشر سنة 1939 مطولته: كراسة العودة إلى مسقط الرأس:
زنوجتي ليست حجرا صممها
ينهض ضد جلبـة النهـار
زنوجتي ليست قطرة ماء ميت ….
فقد أبدع “سيزير” مجموعة من الألفاظ الجديدة، رأى فيها النقد الأدبي الفرنسي نصيرا للمذهب السريالي، حيث اكتشف ” بروتون في سنة 1947 ” الكراسة ” التي اعتبرها سيريالية ” في مقدمته، فرغم أن التقنيات والأفكار السريالية كانت ضمن التراث الذي تتغذى منة الزنوجة الأدبية، فإن ” سيزير ” لم يكتب شيئا سيرياليا ، بل استمد مفرداته من الإرث الأفريقي أو من مدونة النباتات والحيوانات بأفريقيا.
وعن الشاعر ( ليوبولد سيدار سنغور) ” 1906 – 2001 ” يقول المؤلف: ولد ليوبولد يوم 6 يونيو 1906 ” بجوال” وهي واحة ساحلية صغيره، تقع على بعد مائة كيلومتر من “داكار” وينتمي الشاعر إلى عائلة ثرية من التجار، قضى الشاعر طفولة حرة لا يعكر صفوها شيء “لا أدري متى كان ذلك، إذ أن الطفولة ترادف الجنة في تصوري ” والموت يساوي الحياه لدي، ذلك أن جسرا عذبا يجمع بينهما.
لذا جعلته هذه الطفولة يربط علاقات حميمة مع المهد الأفريقي، على عكس الشاعر “سيزير” الذي لا يرى في أفريقيا غير الأسطورة فإن مسعاه لا يخلو من حنين إلى الماضي:
” ولكن لا أمحو خطـوات أبائي
ولا أباء أبائي من رأسي المفتوح
أمام الرياح وأمام ناهبي الشمال “
وينتقل المؤلف إلى الشاعر ليون كوتتران داماس ، قائلا: ينتمي ليون داماس إلى غويانا الفرنسية حيث ولد في 28 مارس 1912م منحدرا من عائلة برجوازية، كانت ظروفه الصحية سيئة أثناء طفولتة ومراهقته، ولعلها تركت آثارها على بناء شخصيته فجعلته شديد الحساسية، غريب الأطوار كانت ( خضابات) هي قصائد داماس الأولى، كتبها سنة 1937م وباعتباره أحد مؤسسي مجلة ” الطالب السود” وصديقا للأنجستون هيج
كان أحد مؤسسي حركة الزنجية، صحبة ليوبولودسيدار سنغور، وإيمي سيزير. ولأن شعر ليون داماس، بسيط ومنطلق وحر العبارة، فإنه محمل بسخرية شنيعة مما يبدية البرجوازيون من شناعة ومن غباوة ( مهما كانوا بيضا أو زنوجا بيضا) إنه شعر يطهر الجسد كله، شعر يرغم قارئه على المشاركة، شعر ذو نفحة غنائية ( كما لدى سنغور وسيزير ) غير أنها محدودة. شعر عبارة عن أنشودة، عن لغة المعركة، عن استحثاث على الثورة:
إلى قدمـاء المحـاربين السنغاليين
إلى الآتيين من المحاربين السنغاليين
…….
أنـا أطـلـب مـنـهم
أن يشـرعوا في اجـتيـاح
السنغـال . (خضـابات)
وهو أيضا شعر كائن مهمش متألم وحزين لحزن جنسه:
أعادوها إلى
أعادوها إلى الحياة
منهكة و أكثر ثقلا .( خضابات)
ويشير المؤلف إلى الشاعـر الفيتورى، فائلا: ولد الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري سنة 1930 في بلدة ( الجنينة) الواقعة على حدود السودان الغربية، ومنذ شبابه الباكر، كان الفيتوري واعيا بوضعه كأفريقي وشاعرا بدمامته وذلك أن سواد بشرته خلق لديه عقدة تقص، وكان رد الفعل الذي ولده هذا الشعور بالمهانة هو إحساسة بالكبرياء الذي دفعه إلى التميز وفرض الذات.
ومن ثم كان رأي الشاعر أن الكائن المبدع ليس شقيا بدمامته بل بحساسيته. إن الفنان بكل ما يملك من قوة روحية بالغة الحزن يدعو الله الا يشقي البشر بهذه الحساسية الشبيهة بالنار “ضد جلبة النهار” بهذه الصيحة المتمردة بدأ الشاعر في سنة 1947 رحلته الشعرية، وفي سنة 1955م نشر الشاعر مجموعته الشعرية الأولى ” أغاني أفريقيا ” حيث اضطلعت مجموعة من رجالات النقد والفكر السياسي العربي بتناولها وعرضها، ومن أبرزهم أحمد رشدي صالح، وكامل الشناوي، وغيرهم.
أما فيما يخص انتماءه العربي أو الزنجي، فقد أعلن الشاعر ” أن المسألة معقدة” فأبي سوداني أسود وأمي ليبية ابنة واحد من أكبر تجار الرقيق في ليبيا وكانت جدتي من أمي جارية جميلة سوداء تزوجها جدي وأعتقها و في حضن هذه الجدة تربيت مدة من حياتي متشبعا بتاريخ “النخاسة” إن المشهد الذي يتذوق الأبيض من خلال هذه “النخاسة” يسعى الشاعر لإبرازه في قصيدته، ويتعلق الأمر بمشهد مزود بالتوابل لضمان مذاق هذه الوليمة الأفريقية حيث تصبح النتيجة سهولة الهضم:
وتعويذة من صلاة قديمة
ليس كثير المرايا
ورقصة سود عرايا
يغنون في فرح أسود
……..
لأبيض هذا الزمان
لسيد هذا الزمان
وعلى الرغم من الدور السياسي الملتزم جدا، فإن المسيره الشعرية للفيتوري عرفت ثلاث مراحل على التوالي: الزنجية ثم الصوفية ثم النضالية (العروبية)، ويمكن القول: إن المرحلتين الأوليين متداخلتان وفي الجزء الأخير يطرح المؤلف مجموعة من شعراء أفريقيا المعاصرين فيشير إلى الشاعر ” زغوا شارل نوكان 1937- ساحل العاج ” يقول في قصيدته ” مفكرة سجن” :
أنا زنجي
استعبدت على عهد القيصر
شيدت الأهرام والقصور وناطحات السحاب
أنا أسود كليلة لا قمر يضيئها
ويقول الشاعر دينيس بروتوس 1924 –جنوب أفريقيا في قصيدته ” سنحيا ” :
سنحيا مهما حدث
والحنوالمستلب لن يخبوله أوار
المنارات الكاشفة تفتت
صورنا العارية العزلاء …
الجدير بالذكر أن كتاب “في الشعر الأفريقي المعاصر” للدكتور حسن الغرفي صدر ضمن مطبوعات مجلة دبي الثقافية في نحو 168 صفحة ؛ من الحجم المتوسط .. ومؤلف الكتاب حاصل على دكتوراة الدولة في الأدب العربي المعاصر ( جامعة محمد الخامس – الرباط 1991) وهو أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بفاس .. ومن أعماله المنشورة : ( أمل دنقل … عن التجربة والموقف 1985 ) و( البنية الإيقاعية في شعر حميد سعيد 1989)
_________
*وكالة الصحافة العربية