القصــيدة الســوداء


* محمد آدم

أية أرض 

تلك التي نسير عليها وتمتلئ بالدمامل
أية أغنيات تلك التي تخرج من بين شفاهنا
صدئة‮ ‬
وملوثة بالخراب والفحم
أية أرغفة هذه التي نجزها بالشراشر
ونقطِّعها بالسكاكين
والبلط
من على الأرصفة والحجارة
ونتقاتل عليها مع النمل
والذباب؟‮!‬
أصابعنا
تحترق من الخوف
أرجلنا لا تدوس إلا على اليأس
على عتبات بيوتنا أوراق السواد
ونوّر الألم
حقولنا جفت من الذرة والأمل
في النهر الذي نشرب منه تسرح القطط الميتة
والضفادع
بدلاً‮ ‬من السمك والشمس
في البئر الذي تحرسه النجوم دائماً
لا‮ ‬ينزف إلا الدم الحار علي طبق من النوستالوجيا
وبلا انقطاعٍ‮ ‬أيضاً‮ ‬تتجول الصراصير بحريةٍ
وفي الليل
تقبل الهموم التي تطأطئ الرأس
وتكسِّر الضلوع
بشغفٍ
لا أمل في الحرية الكاذبة
ولا أمل حتى في الخلاص بالموت
علينا أن نتحمل ونتحمل ما حدث ويحدث
ويح
د
ث‮…!!‬
آه
الرجال الذين كانوا‮ ‬يخلصوننا من الطواغيت
ويخلصون النية لأوطانهم
قد أصبحوا الآن بعيداً‮ ‬بعيداً
المنازل التي كنا نحتمي بها من الرعب والخوف
صارت زنازين
وأضرحة
الرجال الذين كانوا‮ ‬يخلصوننا من الموت
قد أصبحوا الآن بعيداً‮ ‬بعيداً
البعض قد راح‮ ‬يتسول أمام المنازل الغريبة
الآخرون
يتجولون في مقابر جماعية
أو شبه جماعية
غداً
أو بعد‮ ‬غد
سوف‮ ‬يأتي اليوم الذي لن‮ ‬يجرؤ فيه أحد على السير
في مثل هذه الشوارع
وتحت أسقف كل هذه العمارات
سوف تغني الخفافيش بالليل والنهار أغنياتها الرائعة
عن الحب والسلام
وعلى الأرصفة الميالة
سوف توزع منشوراتها الجمة
عن الحرية والعدالة
صارت الجثث في الشوارع
والجثث تملأ الهواء
الجثث في محلات الأغذية
والطماطم
الجثث فوق الأطباق
والجثث تحت طاولات المقاهي
صار الهواء جريحاً‮ ‬ولا‮ ‬يجد من‮ ‬يغسِّل له رأسه
أو حتى‮ ‬ينظف له أسنانه وأصابعه
صارت المراكب تهرب من البحر
والبحر‮ ‬يهرب من الشواطئ مع صديقه المحار
وأخذ القمر‮ ‬يتقيأ بعينين سوداوين
والشمس
تغلِّي رأسها بين المقابر
وهي تمشي على عكازين
وفي فمها خوخة مدودة
وقمر ضرير
على سرير من اللوكيميا
نحن الجماجم المخوخة التي تمشي على الأرض
لا نستقبل النهار إلا عبر مكبرات الصوت
وصفارات الإنذار
بقلوب من فحم
وكربونات
ورؤوس حيوانات منقرضة
وسلاحف الأركيولوجيا
نحن فئران التجارب الميتة الحية
والحية الميتة
والذين تحولنا وداخل هذا الوطن
إلى أنابيب بلاستيك
ومربعات سيراميك
ويأس‮!!‬
نحن حراس الظلال الكونية والمقابر الجماعية
الموطوئين بالأحذية والقباقيب دائماً
سوف تنهشنا الدببة الجائعة والسحالي الصخابة
التي تخرج من الجحور في وضح النهار
وتتنطط على علب الصفيح وأكوام الحجارة
بلا دمعة أجيرة من أحد
أو حتى كلمة رثاء خالدة
أيتها السماء
انتظريني هناك وعلى الرصيف المقابل
حتي‮ ‬ينتهي الموت الرنّان من حصاده وينعه
وينظف أدواته التي‮ ‬يستعملها هنا
أو هناك
وبضراوة على الأرض
وتحت أعين الكروموزومات الضالة
والخلايا الجذعية ودون‮ ‬أن‮ ‬يملَّ‮ ‬أو‮ ‬يصيبه العمى
أيتها الشمس المركبة
تمهلي قليلاً‮ ‬قليلاً‮ ‬ريثما نرفع عيوننا إلي السماء الميتة
وشلالات الضوء النياجرانية
لنتأمل الفجر العابر لعيوننا التي أنهكتها الكوابيس
وصرخات الموتى بعيداً‮ ‬بعيداً
عن كل تلك المقابر التي تملأ الهواء
الكلاب تنبح في السكك والشوارع
والكلاب تنهش عظم الوطن الملطوم على خريطة متفسخة
تحت أرجل المارة وبائعي اللفت والسجائر
الكلاب تأكل خبزنا المحروق وحتى ملحنا الشمّع
الذرة
حتى الذرة‮!!‬
لم تعد تشبع الناس في الشوارع أو تجد الحقول
القمح أصبح جاهزاً‮ ‬للتصدير على شاحنات الـ‮ ‬CIA
وعربات جرّ‮ ‬الموتى
صار الهواء إسفنجياً
واستنشاق طعم الوطن حامضاً
ويقف في الحلق كالدبابيس
والإبر
غداً
أو بعد‮ ‬غدٍ
سوف‮ ‬يأتي الطاعون بعد الأوبئة
وسوف تهبّ‮ ‬رياح الأوبئة بعد الطاعون
سوف‮ ‬يقع الزلزال في‮ ‬يوم ما
ليقضي على الناس في الشوارع
كالكلاب
والقطط
وسوف تقفون صفوفاً‮ ‬صفوفاً
في انتظار حكم الإعدام
أو الخلاص
حتي ولو بالمناجل‮!!‬
الرعد هو صوت السماء الحق
صوت السماء الحق‮ ‬يقول لكم
أنتم أشرار وقتلة
فاسدون
ومراؤون
أنتم شركاء في الشر أيها الآمنون في منازلكم
وداخل أبراجكم العاجية
وفوق طوّافاتكم
سوف‮ ‬يلاحقكم القتل والدم
وتطاردكم الكوابيس واللعنة
حتي في داخل مراحيض طائراتكم التي تقف على الحدود
‮- ‬على أهبة الاستعداد‮-‬
في انتظار لحظة الهروب من الجحيم والموت
أنا
لا أشِّرُ‮ ‬بالموت
ولكني أرى السماء وهي تنفتح بأبوابٍ‮ ‬كالمُهل
يشوي الوجوه
افعل شيئاً‮ ‬يا الله
من أجل هؤلاء وهؤلاء
فلم‮ ‬يعد بعد ثمة‮ ‬غد أو بعد‮ ‬غد‮!!‬
المتسولة تمدّ‮ ‬يدها إلى الهواء لا تجد سوى الدبابيس والإبر
الأعمى تقوده روحه إلى حبل المشنقة
أو حديقة الموتى المسننة بمقصاتها الأربعة
وأنبوباتها الماصة
الأبكم‮ ‬يقول
أين هي الحرية بنت العاهرة الكلبة هذه
لأفضّ‮ ‬بكارتها بمفردي
وأنام في سريرها لوحدي
الحرية‮!!‬
هذه العاهرة اللبؤة
والقاتلة المقتولة‮!!‬
الأبرص‮ ‬يقول
ماذا أخذ كل هؤلاء الشهداء من أجل الوطن
سوى موتهم المجاني على الحدود
وداخل شبكات المجاري
كل ذلك من أجل حراسة تجار المخدرات
ومهربي السلاح
والمومسات؟‮!‬
كل ذلك من أجل بائعي الوطن فوق عربة روبابيكيا
وداخل صالات القمار
والكازينوهات؟‮!‬
الأصم‮ ‬يسأل
عن النغمة الصحيحة في سيمفونية الخنازير هذه
الجندي‮ ‬يسأل
لماذا‮ ‬يبيع رجل الدولة الباذنجان واللفت
ويشتغل بتهريب الرقيق الأبيض
والعملات الأجنبية عبر أنابيب الغاز
والناقلات العملاقة
وسماسرة البورصة
القاضي‮ ‬يزيف الحكم لصالح مجموعة من الفئران الضالة
والشركات المعوية
وبنوك اليانصيب والحظ
وتجار الدم الفاسد
والصحف الصفراء المملوكة لتجار الأفيون والبانجو
رجل القانون‮ ‬يسن القوانين في المطبخ الرسمي للدولة
ويعلقها في حبل‮ ‬غسيل لتجف
فوق أعمدة الإنارة
وعلى ظهر الميكروباصات‮ (‬المِخَلَّعة‮)
كعلامة أكيدة علي ظهور منع الحمل
وعند انتهاء الدورة التشريعية أو الدموية
‮- ‬لا فرق‮-‬
يضعها علفاً‮ ‬للماشية
وخبزاً‮ ‬للبراغيث
والقمل‮!!‬
الطفل‮ ‬يذهب إلى المدرسة لا ليتعلم
وإنما ليسرق الخبز
فيما‮ ‬يشاركه الذباب والناموس في النعاس
على بوابات دورات المياه العمومية
ودراسة فقه الشوارع
وحساب المربعات والمثلثات في بالوعات المجاري
وداخل المزابل الكونية ومقابر الصدقة
حلاق الصحة الكفيف‮ ‬يعمل مشرع قوانين ليلاً
وأستاذاً‮ ‬للفقه الدستوري نهاراً
وكذلك للأدب ما بعد الكولونيالي والبول المقارن
لقاء علبتين من السجائر الفرط وحبوب منع الحمل
والعازل الجنسي
ريثما‮ ‬يكون قد انتهي من طبخ كل هذه المسائل الأيديولوجية للدولة في مطبخ الغائط
رجل الشرطة‮ ‬يهتف
إشارات المرور كلها سوداء
سوداء
سوداء
جاءوا مع الفجر
سرقوا فانوس‮ ‬غرفتي الوحيد
وتركوني في الظلام
أخبط رأسي في حقل مجاور
وقالوا لي
نحن لا نريدك
أنت لا تشبهنا نحن خفافيش الليل والنهار
قلوبنا لا تعمل إلا في الظلام فقط
كانت النجوم تنطفئ
وهي مقطوعة الأيدي والأصابع
جاءوا مع الفجر
سرقوا وطني
عبأوه في زجاجة
الزجاجة كأنها كوكب دري
أخذوا الماء والهواء
ورموا الزجاجة في البر
وتركوني فوق جبل
جاءوا مع الفجر
أخذوا أحلامي وقبضوا عليها من هدومها
وعبأوها في أكياس من النايلون
ووضعوها تحت عجلات قطار
بكلاّبات
جاءوا مع الفجر
كانت الوردة تبكي
والربيع‮ ‬يقف مصلوباً‮ ‬على فردة حذاء
وسنابل القمح تحترق
المنجل في‮ ‬يد البلطة
والبلطة في‮ ‬يد الصرصار
القمر الذي كنا نلفه حول أعناقنا في الليل
مات مخنوقاً‮ ‬على ضفة النهر
كالكلب
والشمس التي كنا نحن عصافيرها في الشتاء
وفي الصيف كنا نحملها على ظهورنا
ونغني لها مع الجنبيات والقطط
تدلت صفراء وواهنة
على لسان الشرشرة
توقفي أيتها الريح في منجم الفحم الأسود
اخلع ثيابك أيها النهار على عتبة الليل
فالفم الأسود للموت‮ ‬يلتهم الأغنيات
وما عاد الزمن سوى ذلك الحصان الأعمى
الذي‮ ‬يقف مبهوراً‮ ‬على عتبة الهاوية
أو تلك الساعة التي تتكتك
في سلة باذنجان‮!!‬
جاءوا مع الفجر
كان الطفل‮ ‬يلعب بالحجلة مع النجوم في القفص
والنجمة الكبيرة الحمراء تمسك بيد الليل البردانة
وتقوده إلى الفراشات
غير أنهم كمموا فمه بالشواكيش وعصبوا عينيه بالإبر
فبكت السماء من الألم
وضريراً‮ ‬تكوم القمر في حفرةٍ
غير أن أمه التي أصابها الجنون والعته
أخذت تدور في شوارع المدينة العتيقة
باحثة عن صديقه البحر
وتسأل
عن وردته التي خبأها خلف سرواله
في سترة الرمل
جاءوا مع الفجر
أخذوا ساقيتي من نحلتها وتركوا أرضي عطشى
ذبحوا ناقتي في الليل
لم تعد الجواميس تضحك في الحقل
ولم تعد تغني السواقي للنجوم والفل
إسودّ‮ ‬القمح في السكك
ومات الربيع على شجرة‮ ‬ينسون
لماذا بالمنجل والبلطة قطعوا شجرة الجوافة
ولماذا سرقوا النهر الغريب من أمام منزلي
باعوا سراويله العتيقة في سوق النفايات
أيتها الشمس المُدرَكةُ‮ ‬بالشصِّ
أراك باكية في الأسر
لماذا تسحبين رأسك إلي الوراء في الفجر
وأنت ترقصين على سن إبره
هذا الليل‮ ‬يحبس ذخيرته الوحيدة من الجواميس
حتي لا‮ ‬يسرقوا منه النجوم في عربة روبابيكيا
توكأي على عكاز‮ ‬يا روحي
فالماء الذي تحسبينه على قيد نهرٍ‮ ‬من السماء
أصبح على بُعد خطوة‮- ‬من نملة مقلوبة‮-‬
في ليل من الجحيم
جاءوا مع الفجر
أخذوا كتبي ورموها إلى النار
قطعوا أصابع الأطفال بالمناجل
فقأوا أعين النهار بالرصاص
وساقوا الكلمات إلى الذبح
وأحرقوا اللغة على الأرصفة وقالوا لكناسي الشوارع
اكنسوا كل هذه النفايات
لم‮ ‬يعد هذا زمن الأغاني
سنعمل من الأمعاء كراسات للريح
ومن الفجر سيارة اسعاف للـ
مادونّا
ومن الكلمات بطاريات رائعة للأسلاك الشائكة
ومن الشمس سيارات لدفن الموتى
ارفعوا الغناء عالياً‮ ‬أنتم
يا من تسكنون هناك في المقابر الخلفية للزمن
جاءوا مع الفجر
ووضعوا الفجر في زنزانة
وقالوا له
صهٍ
صهٍ
لا ترفع صوتك عالياً
أنت‮ ‬غير مرغوب فيك بالأساس
لماذا تتسلل إلى بيوتنا كاللص
وتدخل إلى شوارعنا ومعك كل هذه النجوم
نحن نقدس الظلام
ونزرع كلماتنا بالليل
فلا ترفع كمك بالأغاني
جاءوا مع الفجر
سألوا الوردة لماذا تسكنين في هذه الناحية من الألم
قالت الوردة‮:‬
لأن صديقي القمر‮ ‬يسكن قبالتي على الناحية الأخرى من الجسر
سألوا العصفور‮:‬
لماذا تقيم فوق هذه الشجرة بالذات
قال‮: ‬لأن صديقتي النجمة
وبعد أن تكون قد انتهت من إضاءة كل مصابيح الليل
تسكن معي في نفس الغرفة
سألوا النجمة‮:‬
لماذا تقيمين هناك في خيمة السماء الواطئة هذه
قالت‮:‬
لأن الله قريب من هنا
وفي النهاية أخذوا الوردة إلى المنفى
وأشعلوا النار في البئر
وبعد أن ركبّوا لها عدسات لاصقة
قالوا لها
أنتِ‮ ‬عمياء
ومفلوجة
وخيّطوا فم العصفور بالإبرة
ولم‮ ‬يبق أمامهم سوى النجمة
فعلقوا لها المشانق
وقرروا إعدامها
في ليلةٍ‮ ‬سوداء‮!!‬
________________
* شاعر من مصر (أخبار الأدب) 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *