*محمد أبي سمرا
في روايته “جنود سلامينا” يروي الكاتب – الراوي، وهو نفسه الصحافي المصاب بالملل والسأم من عمله الصحافي، حكايات جمعه مادة الرواية عن أحد مؤسسي الكتائب الفاشية الفرنكوية في الحرب الاهلية الاسبانية في أواسط ثلاثينات القرن العشرين. هي تشبه خشبة عرض مسرحي مفتوحة على كواليسها، من دون فصل ولا تمييز بين الخشبة والكواليس.
الروائي يجعل من أخبار اقتفائه أثر الاشخاص الرواة – الشهود الذين يزودونه الاخبار عن شخصيته الروائية، ومن سرده مقتطفات من سيرهم وتعليقه على ما يروونه له أثناء لقاءاته ومجالسته إياهم، خيطاً أساسياً في روايته. وهذا ما يجعل “جنود سلامينا” عملاً إخبارياً مزدوجاً أو مضاعفاً، يفكك مادة الرواية فيما هو يبنيها، ليقدم عرضاً أو تحقيقاً روائياً. في هذا المعنى تبدو الرواية فريدة في مادتها وفي تركيبها. فبدل أن يبني الروائي شخصيته الاساسية، لإظهارها في دور البطولة بتسليطه الاخبار والاضواء عليها، نجده يفكك هذه الشخصية ليرينا عناصرها التكوينية، كأنه في هذا يريد أن يشركنا، نحن القراء، في التفكير في مصادر تكونها ودوافعها، وفي مسارها ومصيرها في الواقع الحي الذي لا يقيم الكاتب الروائي أي فصل أو مسافة بينه وبين الواقع/ الحقيقة الروائية. كأن الواقع والحقيقة والرواية شيء واحد. هذا من دون أن تتحول الرواية رواية واقعية، وفقاً لتصنيفات قديمة في النقد الأدبي، ماتت ونُسيت منذ سنين كثيرة. لكن فرادة “جنود سلامينا” هذه، لا تنقذ بعضاً من صفحاتها في فصليها الأولين من كون الكتابة فيها مفككة مضطربة وتبعث على الضجر لنقص في فنية أسلوبها الكتابي، على خلاف فصلها الثالث والاخير المميز بروعته وقوته الروائيتين.
قد تكون الترجمة من الاسبانية الى العربية هي مصدر هذا الخلل. فترجمة كل من ندى شديد زيادة وأدونيس سالم، يغلب عليها أداء لغوي مضطرب وعسير، سببه على الارجح ضعف في أساليب الكتابة في العربية، وعدم قدرة ودربة على تطويع اللغة وسبك العبارة، وأداء المعنى وظلاله لإخراجه إخراجاً جمالياً ملوناً، بدل تركه مهتزاً قلقاً وعلى حافة السقوط في عربية ركيكة.
صدرت الرواية عام 2013 في بيروت عن “نوفل، دمغة الناشر هاشيت (الفرنسية) أنطوان (اللبنانية)”، بدعم من “المديرية العامة للكتاب والارشيف والمكتبات في وزارة الثقافة الاسبانية”، على ما ورد في صفحة التعريف بحقوق النشر. أما خافيير سيركاس فكاتب وصحافي اسباني ولد عام 1962، حاز شهادة دكتوراه في الفلسفة، ويحاضر منذ عقدين في اللغة الاسبانية في جامعة جيرونا، وحازت “جنود سلامينا” جوائز اسبانية وعالمية، وتُرجمت الى 50 لغة.
حركات وشخصيات خلاصية
موضوع الرواية أو ذريعتها هي واقعة نجاة رافايل سانشيزمازاس – الكاتب والداعية وأحد مؤسسي الكتائب الاسبانية الفرنكوية في حربها الاهلية ضد الجمهوريين في أواسط ثلاثينات القرن العشرين وعشايا الحرب العالمية الثانية – من الإعدام على يد مجموعة جنود جمهوريين، أثناء فراره في نهاية تلك الحرب من برشلونة عبر الغابات، لاجتياز الحدود الى فرنسا. في صيف 1994 بدأ الكاتب الصحافي سيركاس اقتفاء أثر الحادثة، فاعتبره “بعض” زملائه “الصحافيين (…) خائناً”، لأنه انصرف “عن الصحافة الى الرواية “التي شرع في جمع مادتها من رواة – شهود كُثر يروي الفصل الاول من “جنود سلامينا” شهاداتهم.
في الفصل الثاني نتعرف إلى بعض العناصر التكوينية في شخصية الكتائبي مازاس الذي “كان يعتبر السياسة مهنة غير لائقة برجل نبيل”. فهو سليل “عشيرة من النبلاء تميزوا بجذورهم الليبيرالية وميولهم الأدبية، وبتجذرهم الشديد في مجتمع بيلباو الراقي”، وكان “شاعراً جيداً صغيراً، لأبياته وتر واحد بسيط وقديم، رتيب وعاطفي، لا يغني إلا الحنين العذب الكئيب الى الوقت الذي يهرب” مزيلاً معه “نظام عالم وقيمه الراسخة”. لذا هو “عالم وهمي ومستحيل، وعلى صورة الجنة”. في ايطاليا التي سحرته وعاش فيها 7 سنين، نضج مازاس كرجل وقارئ وكاتب، تميزت كتابته “بنزعة أدبية غنائية حادة الحماسة السياسية”، ثم “اعتنق الفاشية”. وهذه كانت عنده “محاولة سياسية لتحقيق شعره”، لتحويل حنينه الغنائي الى ذلك العالم الزائل الى “واقع”. وهذا ما يذكّر بالفكرة والشخصيات الروائية الأساسية في أعمال ميلان كونديرا.
عاد مازاس الى مدريد العام 1929، مكرّساً نفسه لبناء مستقبل لإسبانيا مطابق لما رآه في ايطاليا. وذلك عندما كانت “الحرب في الواقع زمن الابطال والشعراء بامتياز في ثلاثينات” القرن العشرين، آن تدرَّج عدد من كتاب اسبانيا وأوروبا كلها “من الجمالية الرياضية واللاهية للعشرينات السعيدة، الى الصراع السياسي الصرف والقاسي للثلاثينات الضارية”. في ذلك الوقت كانت المقاهي في كثير من المدن الأوروبية تعجُّ بشلل من شبان “يتناقشون حتى ساعات متأخرة من الليل، في السياسة والأدب”. بعضها تحتجّ “بأناقة اريستوقراطية صارمة على السوقية الديموقراطية والجمهورية”، والى جانبها شلل “كتاب شبان يساريين تشاطر (الاولى) القلق والجعة والنكات والشتائم الودية”. لكن حال الطرفين، بعد مناقشات المقاهي والخروج من مسرح أو صالة معرض فني، كان الانضواء في معسكرين متعارضين، وفي “شجارات شوارع، لا تستثني اعمال التفجير وسفك الدماء (…) وشأن الحركات الفاشية، تبنت الكتائب الاسبانية أساليب لينين الثورية: قلة من الرجال الشجعان (…) تكفي للإستيلاء على السلطة بقوة السلاح”.
نورد هذه المقتطفات من الرواية للقول: ما أشبه تلك الايام الاوروبية والاسبانية بالكثير من أيامنا العربية واللبنانية المتناسلة منذ ثلاثينات القرن الماضي، حينما جرى تأسيس الاحزاب القوموية، أمثال “البعث” وداعيته “الاستاذ” المتأدب ميشال عفلق، العائد من باريس الى دمشق، حاملاً، شأن مازاس الكتائبي الفاشي الاسباني، الطوبى البعثية التي أنشد شاعرها سليمان العيسى قائلاً: على جوانبها “تتفجر الجماجم والدم”. ومن تلك الاحزاب “السوري القومي الاجتماعي” و”زعيمه” العائد من اميركا اللاتينية الى لبنان، خطيباً مرفوع القبضة أمام “نسور الزوبعة”، مبشراً بخلاص “سوريا الطبيعية” بواسطة “الناموس” القومي. وهو الحزب الذي انتهى أخيراً جهازاً أمنياً لـ”البعث الأسدي”. أما “الكتائب اللبنانية” فعاد “شيخها” بيار الجميّل من مصر “طهرانياً لبنانياً”، مفتتناً بالرياضة البدنية والتنظيم الشبابي تقديساً للبنان باسم الشعار المثلث: “الله، الوطن، العائلة”. وهو التقديس الذي جرت على جوانبه أنهار من الدماء، بعدما جرحته جرحاً بليغاً فوضى المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان، وتصدى لذلك الجرح تصدياً خلاصياً صاعقاً مؤسس “القوات اللبنانية” الشيخ بشير الجميّل. ومن بين أنقاض الحروب والتهجير ظهرت النسخة الخلاصية الشيعية الخمينية في لبنان الثمانينات، فتأسس “حزب الله” وتصدَّر قيادته وخطابته الحربية السيد حسن نصرالله الذي جعل من الحروب والانتصارات “إلهية” مقدسة، وصولاً الى بلدة القصير السورية، دفاعاً عن “البعث الأسدي” ضد الشعب السوري.
وها هي الجماعات المشرقية في البلدان العربية تذهب بعيداً وعميقاً في تجويف الدول وتفكيكها وتذويب حدودها متوهمة أنها في هذا تبلغ خلاصها بتسوير ديارها بالدم وبتبادلها السيارات المفخخة. ونسجاً على منوال ما فعله الروائي الاسباني خافيير سيركاس في “جنود سلامينا”، كم نحن في حاجة الى روايات تستعيد وقائع مآسينا وحركاتنا الخلاصية التي بدّدت بالحروب الاهلية المتناسلة ستة عقود من تاريخنا، ولا تزال مستمرة في التبديد الى أجل يصعب تحديده.
بؤس “الأبطال”
في الفصل الثالث والاخير من “جنود سلامينا” تتبلور المقدرة الروائية لسيركاس وتبلغ ذروة في التركيب والاثارة والتأمل في الحرب ومصائر المحاربين الاسود والبائس. هذا على الرغم من اقرار “بطل” هذا الفصل الذي خاض غمار الحرب الاهلية الاسبانية موصولة بالحرب العالمية الثانية حتى نهاياتها على الجبهات القارية، بأنه وأمثاله من المحاربين المنسيين المهملين في بؤس الشيخوخة ووحشتها، هم مخلّصو أوروبا من الفاشيات والنازية، وهم صنّاع رخاء القارة العجوز في النصف الثاني من القرن العشرين.
الكاتب – الروائي والراوي يقرّ في مستهل هذا الفصل بأن راويه أو “بطله” الشاهد، أرغمه على تغيير مسار روايته ومجراها “لأن الكتب (…) تسلك دائماً حياة خاصة بها”، و”لأن الكاتب” إذا ما أراد لنصّه أن “يكتسب أهمية حقيقية”، لا يكتب قط عما يعرفه، بل (…) عما يجهله”، وهذا غالباً ما تقوده اليه المصادفات التي تغيّر مجرى الرواية وحوادثها وتُدخل اليها شخصيات ووقائع جديدة. هذا ما فعله لقاء الكاتب الروائي بالمحارب العتيق، الراوي والشاهد، ميرايّس الذي التقاه في مأوى للعجزة وجالسه ساعات راوياً مقتطفات من سيرته الحربية، ليقول له في بداية لقائهما: “صدقني، هذه الروايات لم تعد تهم أحداً، ولا حتى من عاشوها”. وهذه حقيقة وجودية أكيدة من وجهة نظر ميرايّس ومصيره. فهو غارق في بؤس الشيخوخة وفي النسيان، شأن ابطال الملاكمة في الافلام التي تروي صعودهم الى قمة المجد، لينتهوا أخيراً غارقين في البؤس والنسيان، في مأوى مثلاً، كحال ميرايّس الذي يقول إن “من لم يعش الحرب” و”ذهب” اليها “كي يرويها، لا كي يخوضها”، هو من يراها “مليئة بالقصص الروائية”. أما الذين خاضوها وقتلوا فيها شباناً، أو ظلّوا على قيد الحياة، مثل ميرايّس، فقد ماتوا “لأن “لا أحد يتذكرهم، لا أحد. لا أحد يتذكر حتى لماذا ماتوا، ولماذا لم يحظوا بنساء وأبناء وغرف مشمسة. لا أحد، وخاصة الناس الذين ماتوا من أجلهم”. فها هوذا ميرايّس نفسه يقول لمحدّثه الصحافي في لحظة وداعهما: “هل أستطيع أن أطلب منك خدمة؟: لم أعانق أحداً منذ سنوات”.
__________
*(النهار اللبنانية)