* خليل قنديل
تحتاج الكتابة إلى طرفين، الأول هو الكاتب الذي يولد العوالم الكتابية ويؤثثها، والثاني هو القارئ المستقبل لتجليات مخيال هذا الكاتب وتحبيراته. وما يجلل هذه العلاقة كيميائية مطلسمة تتحكم بالمتواليات وتطورها، وبالتالي هذه الكيمياء هي التي تعمل على تمجيد هذا العمل أوإقصاء ذاك!
ويظل الكاتب المبدع يراهن في بناء عوالمه على قدرته في إغواء القارئ وجلبه مخفوراً إلى عوالمه، ولا أبالغ إن قلت إن الكاتب يحتاج أحياناً إلى قدرات مخيالية خارقة من أجل استغفال القارئ، وقد ظل الأدب لعصور طويلة يعتمد على الإمساك بحالة الاستغفال هذه، ليحفر مكانته العميقة في مساحة الاستغفال هذه، ذلك أن الأدب لا يطالب في بداية التواصل إلا أن يُقبل القارئ على ما يمكن أن يخلخله الكاتب من رواسخ.
إن المبدع عليه ولكي يصل إلى تسويق تجلياته ان يبدأ بـ«لحس» عقل القارئ، وأن يجعل القارئ يصدق عوالمه المقترحة.
وفي عملية استدراج الأمثلة فان الكاتب الكولومبي غارثيا ماركيز كان عليه أن يمهد بواقعية سحرية أخاذة في روايته ذائعة الصيت «مائة عام من العزلة» قبل أن يجعل القارئ يصدق أنه من الممكن أن تصعد امرأة إلى سطح بيتها لنشر غسيلها، ومن ثم تطير وتختفي! ولو أن العوالم الماركيزية لم تؤسس لمثل هذا المشهد الفنتازي لما تقبل القارئ حالة الطيران هذه!
ونلحظ أن الروائي الروسي دوستوفسكي قد استطاع في روايته ذائعة الصيت «الجريمة والعقاب» أن يجعل القارئ شريكاً مع بطله راسكيلنوف في جريمة قتل العجوز المرابية، لا بل استطاع دوستوفسكي أن يتغلغل في تعاريج السايكولوجية الإجرامية، وأن يبرر لنا أن قتل المرأة العجوز هو شر لابد من تحقيقه.
وفي قصته «قط أسود» يسعى الكاتب الأميركي أدغار ألن بو الذي كان يعاني حالات عصبية لإقناعنا بأنه يمكن للبطل الذي يناصب ذاك القط العداء أن يقتل القط، وأن يضعه في خلطة أسمنتية في جدار!
ونحن نلحظ أنه في معظم الأعمال الأدبية بروز القوى التسلطية عن المبدعين في التركيز على الحالة الاستغفالية للقارئ بطريقة لا تخلو من التوريم الكاريكاتوري للحالات التي يتم تناولها.
وها نحن في رواية «العمى» لصاحب نوبل، البرتغالي جوزيه ساراماغو، نلحظ القدرة الإبداعية الهائلة عند ساراماغو، وهو يروي حكاية العمى التي تبدأ برجل يقود سيارته، ويتوقف عند إحدى إشارات المرور، ولكنه وهو ينتظر اللون الأخضر للإشارة يفقد بصره ويتحول الفضاء والناس حوله إلى لوحة حليبية، والمشكلة أن ساراماغو لا يتوقف عند هذه الحالة، بل يطور فكرة العماء ليحولها إلى داء يمكن أن يبتلى به شعب كامل!
ولهذا أنت حينما تبدأ بقراءة رواية «العمى» عليك أن تعطي عينيك للمؤلف منذ الصفحة الأولى لتبدأ بتذوق لعنة العماء!
إنها إذن الكتابة التي عليك أن تمنحها بعض غفلتك كي تنمو وتكتسب كل هذا الألق الإبداعي المُدهش!
__________
*(الإمارات اليوم)