نوافذ للحقيقة


*إبراهيم صموئيل

هل حقا “من العبث الاستغراق في الكتب المقدّسة، ومراجعة التفاسير، وجمع الآراء -وفق أمين معلوف في كتابه المثير “الهويات القاتلة”- إذ سيكون هناك دائما تأويلات مختلفة، وآراء متناقضة، بالاستناد إلى الكتب نفسها، نستطيع قبول الاستعباد أو تحريمه، تبجيل الأيقونات أو رميها في النار، منع الخمر أو السماح بها، المناداة بالديمقراطية أو بالثيوقراطية.

كل المجتمعات الإنسانية عرفت كيف تجد على مدى القرون الشواهد المقدسة التي كان يبدو أنها تسوّغ ممارستهم الآنية”!؟ سؤال يستحق التوقف معه، لا فيما يتعلق بما مضى وانقضى من تاريخنا العربي، وبما شهده من حوارات ومجادلات ومنازعات في الرأي، وإنما أيضا فيما يخصّ القائم اليوم والجاري على الأرض العربية، وما يحصل بيننا من تناحر في العقيدة والرأي والمذهب أدت -وتؤدي- إلى سفح الدماء وهدرها!
مما سبق، يصل معلوف إلى نتيجة حاسمة مفادها أنه لا جدوى من البحث والتساؤل حول حقيقة ما يقوله هذا المذهب أو ذاك الاتجاه في ذاته، وقد تأكدت هذه النتيجة لديه عبر كل المناظرات والحوارات والجدل التي خيضت منذ ألف عام إلى اليوم! كل ما في الأمر أن دورة الحوارات والمناظرات تجدد نفسها بين قرن وآخر، أو كل عدة عقود، بطرائق مختلفة وأساليب متنوعة، ولكن.. وصولا إلى نتيجة واحدة هي عينها الناتجة عن الجدل السابق!
وفي كتاب للمفكر علي حرب نجده يبحث بحثا موسعا في “نقد الحقيقة” مؤكدا على عدم وجود حقيقة مع أل التعريف، ذلك أن “الحقيقة” المستنبطة من النص هي حقيقة الدارس، رؤيته، فهمه للنص.. وليس حقيقة النصّ التي اكتشفها، أو كشف عنها القارئ.
وبالطبع، لا يذهب الكاتبان إلى أن مفاهيم الحياة عبث بعبث وأن الحقائق -على اختلاف ميادينها وتنوعها- باطلة وقبض الريح! غير أنهما يسلطان الضوء -كل على طريقته- نحو التباسات وإشكالات وتعارضات قادت، وتقود اليوم، إلى نزاعات من شأنها هدر الكلام، وهدر الجهود، وهدر الدم جراء وهم بلبوس يقين من أنني -وحدي- أمتلك الحقيقة كاملة، وأمتلك النص وتفسيره الوحيد!
وفي الواقع لو كان رأي ما أو تفسير ما أو تحليل ما هو “الحقيقة” وعين الصواب، فما الداعي لوجود رأي أو تفسير أو تحليل آخر؟ ما مبرر الشورى من أساسها في أمور الحكم؟ وما ضرورة الحوار والرأي والرأي الآخر فيما يتعلق بهذا المعتقد أو ذلك النص أو هذا الاتجاه أو ذاك المذهب أو تلك المدرسة؟!
ولعل من الصواب ما ذهب إليه معلوف في كتابه المذكور آنفا من أنه “لا يجب الانكباب على جوهر العقيدة، وإنما على تصرفات الذين يستندون إليها على مرّ التاريخ”، الأمر الذي يدعو للتأمّل في الماركسية -مثلا- كما قدمت على أيدي زعماء الاتحاد السوفياتي (ستالين أبرزهم) وكرّست لدى شعوبهم، وانتشر تكريسها في مختلف بلدان العالم، أو النظر إلى الوجودية مذهبا فلسفيا وفق ما راجت في مجتمعاتنا العربية في الستينيات من القرن المنصرم.
وكذلك مفهوم الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن كما عرب على أيدي عدد من النقاد والدارسين في الثقافة العربية، أو أدب الالتزام، أو مذهب الفن للفن، أو الواقعية السحرية، وغيرها الكثير من المنظومات والمفاهيم والمذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية؟
أحسب أن المحمول، فكرا كان أم مذهبا أم اتجاها أدبيا أم مدرسة فنية، سيتجلى وفق رأي حامله وتفسيره وميوله بل ودوافعه ومزاجه! القطع بالرأي، ونبذ أي رأي آخر هو المعبر الحتمي نحو التنابذ والإلغاء والتهلكة.
ما من سبيل لاحتكار الحقيقة، وما من سبيل للنهوض والتقدم إلا بالاعتراف الداخلي العميق الصادق بالآخر وبحقه. في المعرض الدائم للفن في باريس يرى الزائر لوحات بيكاسو ورينوار وغيرهما من كبار الفنانين الأكثر شهرة إلى جانب أعمالٍ من مثل قطعة معدنية من سيارة منصوبة على حامل خشبي أو غرفة فارغة سوى من خزف أبيض يكسو أرضها وجدرانها وسقفها، أو قوالب ثلج عدّة صُبغ كل واحد منها بلون مختلف!!
ينفر المرء للوهلة الأولى من التجاور هذا -بحسب ما نشأ عليه من مفاهيم، وما غذّاه به محيطه ومجتمعه ونقّاد الفن- بيد أنه للوهلة الثانية، يتفهّم ويدرك أن خلف هذا الذي يبدو تعارضا بل وربما استخفافا بقيم الفن التشكيلي إن هو إلا التعبير الحقيقي العميق، بحق الآخر في أن يرى ما يراه، ويعتقد بما يعتقده، ويقدّم فنه بطريقته، مهما كانت رؤيته، واعتقاده وكان فنه على خلاف تام مع مفاهيم الفن وقيمه وأعماله، سواء المنتشرة لدى الأغلبية، أو تلك المتضمنة في كتب ودراسات تاريخ الفن وأعلامه!
ذلك كله يحضر المرء وهو يرى إلى ما يجري في عدد من البلدان العربية، ومن بينها مصر التي تشهده منذ أيام -في سلسلة ما شهدته بعد الثورة- واقعة اعتصام نخبة من المثقفين والمبدعين المصريين المعروفين في مبنى وزارة الثقافة لتحقيق مطالب حملوها.
وإذ بما يُفترض أنه المسؤول الرسمي عن شؤون الثقافة والفكر في مصر كلها بصفته وزيرا للثقافة يخاطب المبدعين المعتصمين قائلا “أنا لا أراكم! ولا أسمعكم! فأنتم والهواء سواء!” مصر، بثقافتها وتاريخها وعراقة حضارتها، يقال لمبدعيها من رأس الهرم الرسمي ما قيل!!
ألا يذكر القول بالقول حين صاح معمّر القذافي في وجه الثائرين من أبناء شعبه: “مَنْ أنتم! مَنْ أنتم!”؟! مصر التي نهضت لتفتح نافذة للضوء والحرية والكرامة والكفاية، يجد مثقفوها أنفسَهم، بعد الثورة أمام ما لم يجدوا أنفسَهم في مواجهته قبل الثورة، وما لم يجرؤ مسؤول على قول ما قيل اليوم!!
هل نعود إلى احتكار “الحقيقة” والاستئثار بالسلطة، وفرض الرأي الواحد، واللون الواحد، غير عابئين بالآخر وبرأيه، بل أيضا غير رائين له أساسا، وغير سامعين لرأيه بالأصل!؟ بالطبع، نحتاج إلى زمنٍ لنتغيّر ونغيّر. نحتاج إلى قلب للتربة عميق، عميق. نحتاج إلى تنشئة وإعادة تأهيل لعقولنا من جديد، وإلى فتح للنوافذ على مفاهيمنا المحجور عليها، المحجوزة لسنوات وسنوات.
غير أن المرء، وهو يستذكر ألف عام مضى من هدر الجهود والإمكانات والطاقات لسبب رئيس: الصمم عن سماع الآخر، ولسبب رئيس: إلغاء الآخر، فإنه ليصاب بالرعب الحقيقي إزاء توهّم امتلاك “الحقيقة” وما يؤذن به هذا التوهم -لو هو استمر- لألف عام قادمة من الدوران في الحلقة المفرغة نفسها، والخوض في المجادلات العقيمة نفسها، للوصول إلى التنازع ذاته، والنتيجة عينها!!
_____________
*كاتب وقاص من سوريا(الجزيرة) 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *