هناء موسى *
( ثقافات)
في الصورة كان مكانه خاليا ..وقفوا كلهم مجتمعين في مكان واحد، منذ زمن لم يجمعهم الا قلبه، ضيعته المنافي والطرق، كل الابتسامات لم تستطع ايقاف الريح التي حملت ألوية رحيله ، حتى صار المكان باردا في الوجوه التي ألفت ضحكاته ، لو أنه تمهل قليلا كي يترك صدى صوته يملأ الفراغ في قلوبهم ، لو أنه ترك للصغير يدا تمسكه بينما يقطع العمر والوقت من رصيف الى رصيف ، لو أنه ترك لابنة أخيه وقتا كافيا كي تحتضن احتفاله بها وولعها به وهو يربت على كرشه الضخم مبديا ملاحظاته حول ما تكتب أو نصائح حول ما تقرأ ..
لم يبكوا كما كانت وصيته ، الحياة قصيرة أقصر من نقضيها في الحزن .. لم يلتحفواالسواد كما أراد ، لكن عصافير البيت لم يترك لها وصية فبكت ، بكت عنهم كلهم … تلمست صورتهم من دونه على حائط البيت المهجور ..
تلمست طاولة المطبخ حيث كان يجلس يضع نظارته على عينيه ، يحك ذقنه قليلا وهو يقرأ مقالا كتبته بعناية ” هذه الجملة تحتاج الى اعادة صياغة ، وهذا الكلام حشو لا طائل ، أبدعت أحسنت يا فتاة يوما ما سيكون لك مستقبل رائع ” كانت لا تزال طفلة لا تصل الى خصره ، وبالكاد تستطيع القبض على الكلمات …
اليوم عادت الى المنزل المهجور الا من طيفه تبحث في ماضيها عما تتعلق به ،أزاحت الستارة التي فوق الحوض ونظرت من النافذة الى الاسطبل المهجور من أحصنته .. أحصنته ماتت، واحدهم تلو الآخر بعد موته ، أي وفاء يسكن الأحصنة ولا يسكن قلوب البشر …
هنا كانت عمتها زوجته تقف تغسل صحون العشاء بينما يتشاجر الصغار على أي شيء وبلا سبب محدد وهو يجلس وفي يده كتاب صموئيل بيكت أو توفيق الحكيم أو هنري ابسن .. فقد كان يؤمن أن الحياة أكبر مسرح للعبث ..
الغبار يلف كل شيء يكفن هذا الماضي السحيق .. كيف مضى الزمان كيف كبروا فجأة وتفرقوا من حول ذكراه، كيف أقصوه عن ذاكرتهم ؟! كيف خانوه ؟! أم لعلها هكذا هي الحياة ؟! الحياة القصيرة العمر التي كان يتحدث عنها ….
الزمن مضى ويمضى ، تريد أن توقفه قليلا تبعث من ماتوا ، تعيد من أخذهم ولو قليلا ، أن تعود طفلة تشغلها قصيدة خانتها فيها القافية …تمشي تدوس بكعب حذائها العالي على دمية قديمة فقدت احدى ساقيها ، انها مثلها غجرية فقدت ساقيها ،فثبتوها بإحكام بدبابيس على عمود في وسط ميدان مزدحم ، تتأوه اثر سقطتها ،وتتأوه أكثر من نفسها التي ضاعت منها في الزحام .. عندما قال لها ستصبح يوما ذات شأن ، لم يكذب بل كانت نبوءة عراف ، لكنه شأن ليس شأنها .. لقد أصبحت شيئا لا يعنيها .. كلماتهاالجوفاء الفارغة تطربهم فيصفقون فلا تسمع صدى ذاتها بين المصفقين ،وصار ضباب العمر أغنيات ، لم يعش كفاية ليخبرها كيف تنجوبنفسها وسط الزحام..
جلست في الشرفة على كرسيه الخيرزاني حيث كان يجلس مساء ببطنه الممتلئة بالسوائل، وقدميه المصابتين بالوذمات، ووجهه المتكدم ، و كبده المتشمع، كل ما فيه كان يؤلمه حتى الحياة . كانت تركض اليه تجلس عند قدميه تسمعه يقرأ لها “انالجاذبية أقوى من أن تسقط مجرد تفاحة،ان الشمس أعظم من أن تكون مهمتها انارة كرة بحجم قبضة اليد، ان الزمن مهمته أكبر من تعداد أعمارالفانين، هكذا هي الأشياء العظيمة المقدارالصحيح في الاتجاه الصحيح بالطريقة المثلى” لكنها الآن حائرة لم تعرف الطريقة المثلى بعد لعيش الحياة…. “ان الألم نعمة من نعم الحياة كيف يعرف الراحة من لم يعرف الألم …. ” وتصتك أسنانه ، بينما تتشنج عضلات وجهه المغمض العينين وهو ينطق كلمة ألم .. لم تكن تعرف حينها لم يفعل ذلك .. فتسأله : عمي ما بك ؟! فيبتسم ابتسامة محارب مهزوم ويمسح على رأسها ، ويجيب كذبا مشفقا فيه على رقة عودها “لا شيء”….ويكمل القراءة .
تحسست رأسها وتلمست الكرسي بحثت فيه عنه وتاهت طفلة صغيرة أو دمية مصلوبة لم تعد قادرة على كتمان عشرون عاما من الدموع …وانفجرت في البكاء.
* قاصة من غزة