كنا نمشي معاً في شارع الأميرات



*فاروق يوسف

“يا عذراء”، لم يقلها أحد. كانت تُهمَس. تُتلى وتُرتَّل وتمتزج بالدمع وتسيل على ثياب الفلاّحين المزركشة. خيِّل إليَّ أن شبح باخ قد مرق من بيننا خلسةً، ذاهباً إلى منصته. أين يقع الأرغن؟ أقصد أرغن الرجل الذي سيقول له الله “شكراً” حين يلتقيه. كنا نقف وسط حشد ضائع، يقدم خطوة ليستعيدها في اللحظة ذاتها، متردداً من غير أن يعتذر. لم نكن نقف ثابتين على أرض لم تكن ثابتة. كانت أجسادنا تتحرك منسابةً في مجرى بشري هائم على وجهه، تضربه خفقات أجنحة سرّية بهوائها. قلت لجبرا مستفهماً: أين؟ هزّ كتفيه نافياً. التصق بي وهمس في إذني: لا مكان. وهو ما يثبت لا ما ينفي. كانت أيادي المزارعين المؤمنين ترتفع لتشير إلى جهة تقع أمامنا، على يسار ستارة خضراء، في بقيا من شمس علقت بالنافذة المستطيلة. أغمضتُ عينيَّ وفتحتهما، لم يتغير المشهد. كان قلبي لا يزال يعمل. شعرتُ أن قلب جارتي العجوز قد استلقى بين ضلوعي حين لمست يدي المرأة وضغطت عليها وهي ترفع جسدها عن الأرض لترى بعينيها ما رأته بقلبها. كانت شفتاها تنفرجان وتنطبقان بخفة وببطء. هل كانت عاطفتها تتكلم؟ شيء منها، من إشفاقها، من لذتها، انتقل إليَّ فرغبتُ في أن أكون إبنها، خادمها، مقبِّل يديها، وحامل نعليها الذي يتبعها إلى البيت. التفتُّ إلى جبرا: “هل رأيتَ شيئاً؟ ابتسمتُ. ابتسمَ لي. كان وجهه منيراً. وضّاحاً، متفائلاً كعادته. لم يكن هناك أيّ أثر للخيبة، أسرته فكرة أنه لا يرى. قال لي في ما بعد: يكفي أنهم رأوا. كان قد حدثني قبل لحظات من دخولنا إلى الكنيسة عن لقائه العذب بمالوين، الآثاري البريطاني الشهير في المكان نفسه، لكن قبل عقود. قال: أخبرني مالوين أن زوجته هي الأخرى كانت كاتبة بعدما عرف أنني كنت أمارس الكتابة. ثم اكتشفتُ بالمصادفة أن أغاثا كريسي كانت هي تلك الزوجة التي لم تكلم أحداً. خيِّل إليَّ أن ذاكرتني تخونني إذ تستحضر كلماته. هناك جملة واحدة صار شعب من المتأوهين، المعذبين، الملتاعين، يقولها بلغة متقشفة، زاهدة بمعانيها الفائضة. لقد افترضتُ أن حياتي كلها في تلك اللحظة قد اختُزلت في ذلك اللقاء العارض بين وقائع صار عليَّ أن أقبل عليها كما لو أنني كنت موعوداً بها. كنت مسمّراً على صليب جملة غامضة تسللت بخفة إلى فؤادي. كانت بي رغبة أن أسأل جارتي التي كانت لا تزال ممسكة بيدي: هل أعود بك إلى البيت يا أمي؟ لكنني كنت على يقين من أنها لم تشبع بعد من رؤية العذراء. طمأنني جبرا حين تركني واقفاً، وغادر بعدما قال لي: سننتظرك في الخارج. لا تحرج المرأة. لتأخذ وقتها كاملاً. تركتُ يدي في يدها ونسيت أن لي يدين. لم تكن يدي الأخرى تعمل بحرية. كان هنالك شعب يتحرك برخاء من حولي، ملتصقاً بي، لم يكن يفكر في مصير أطرافه العليا أو السفلى. ما من أقدام، لأننا كنا نجري مثل الماء. ما من أيد إلا تلك التي ترتفع لتكون مقطوعة عن الجسد الذي تنتمي إليه. الأيدي التي كانت ترى بدلا من العيون كانت تأسر فكرتها عن شيء فاتن لا يقع إلا باعتباره هبة إلهية. لم يسأل أحدٌ أحداً: هل رأيتَ شيئاً؟ لم يكن الكلام حينها ميسّراً. يضغط الشعر على اللغة. يفتّت حصاها قبل أن تصل إلى الأماكن المغلقة. لقد رأيت بقيا من الشمس هناك كما لو أنها كانت جزءاً من حياة صامتة إلى الأبد. هل كانت الطبيعة هي الأخرى تلعب معنا؟ بكت جارتي بحرقة والتفتتْ إليَّ. هل رغبت في أن تراني باكياً؟ أصدّق دموعها. بل تمنيتُ أن أجمعها دمعةً دمعة لأضعها في دورق وأناديه: يا أمّي.

لا ينفع أن أقول لها إنني لم أبكِ وسط حشود الباكين لأنني كنت أعمى. لم أر ما رأته. لم أر ما رأوه. لقد خسرتُ فرصة هي أشبه بالقدر الذي لا يتكرر. كانت العذراء ضيفتنا. ضيفة قريتنا. لم تكلم أحداً من الإنس، فقد كانت صائمة. غير أنها كانت تنظر إليهم. لم تُلقِ عليَّ نظرة واحدة. لو فعلت لكنتُ رأيتها. لكنت شعرتُ بها. لم أسأل جبرا يومها: كيف لم تتعرف إلى كريستي حين رأيتها؟ خفتُ أن يسألني: ولِمَ لم تر العذراء حين تعرفتَ إليها؟ كان الشعب القادم من القرى القريبة والبعيدة قد أطبق عليَّ بلغاته المشتقة من السريانية. هل كان بعضهم يفهم البعض الآخر؟ ليس تماماً. لكنهم سيعودون إلى بيوتهم مطمئنين، من غير أن يعلق بأذهانهم أيّ أثر من سوء الفهم. هناك حكاية لا تصمد أمامها اللغة، كل لغة. “لقد رأيت سيدتنا”، ويصمت. أكد لي جبرا أنها المرة الثانية يكون فيها شاهداً على ظهورها، من غير أن يتمكن من رؤيتها. المرة الأولى وقعت يوم كان طفلاً في بيت لحم. قال: تنقصني عينان تدمعان من أجل أن أرى جيداً. ألا يكفي أنني رأيتها شاخصة في عيونهم؟ لقد كان غدهم منشى بها. سيخبرون أبقارهم وأغنامهم وأشجار حقولهم وحتى أحجار الطريق بأن العذراء تذكّرتهم واحداً واحداً. العذراء لا تنسى أحداً. لم تبك زيتاً. نحن بكينا. دموعنا كانت من ماء. لم تغضب جارتي لأنها لم تر الدموع في عيني. كانت دموعها تكفي لإثنين. بل لشعب يمشي في متاهة. حين خرجنا من الكنيسة ولم نكن نمشي على أقدامنا، بل كنا نجري بقوة الدفع التي كانت تأتي من خلفنا، كانت الأم لا تزال ممسكة بيدي. وجدت حجراً فجلست عليه. تركت يدي وصارت تنظر إلى الأرض. لم تتوقف شفتاها عن الارتعاش. حينها قلت لنفسي: لقد انتهت مهمتي. فعدت إلى الحافلة. ما إن صعدتُ حتى سمعتُ جبرا وهو يقول لي ضاحكاً: لقد توقعت أن تصطحب أمّك معكَ. لم أضحك فقد كنت حزيناً. شيء مني تركته في يد تلك المرأة. جلستُ في مكاني إلى جانب جبرا وسألته: هل أكون كاذباً لو أنني قلت إنني رأيتها؟ ربت جبرا كتفي بحنان وقال: وإلا كيف تُكتب الروايات؟ تذكرتُ أنه كان يأخذ بيدي لنمشي في شارع الأميرات وهو يحدّثني عن صديقه توفيق صايغ ويُنهي كلامه بسؤال كان غامضاً يقول: وإلا كيف يُكتَب الشعر؟ الآن، أشعر بالندم لأنني لم أسأله يومها: ترى كيف يُكتَب الشعر؟ قال لي إن الدموع لا تنتمي إلى الشعر، هي إلى الرواية أقرب. لم أفهم. قال لي ان تلك المرأة كانت تودّ أن تعيرك قليلاً من دموعها لتكون إبناً حقيقياً. سألتُه: وهل كان في إمكاني بعدها أن أرى؟ قال: لن تكون الأم معنية بما تراه. على الأقل ستكون مقننعة بأنك ستصدّق ما سترويه لك. سألتُه: وهل الموضوع شخصي إلى هذه الدرجة؟ قال: “سأفسر لك. بالنسبة إليهم، الأم المقدسة موجودة في مكان ما من الكون. تظهر أحياناً لأنها تريد أن تقول شيئاً. ما هو ذلك الشيء؟ إنهم غير معنيين بمعرفته. ما يهمّهم فعلاً هو أن يثقوا بشغفهم الأسطوري بها. لقد كنتَ محظوظاً إذ حضرتَ تلك الحفلة الاستثنائية في التاريخ البشري.
كان جبرا مسروراً من أجلي. كنتُ شاهداً على ظهور العذراء في كنيسة إحدى قرى الموصل، شمال العراق. بل سيُخيَّل إليَّ بسببه أنني رأيتها. قال لي: لِمَ لا؟ يحدث لك أن ترى نغماً يتحول في ما بعد إلى كلمات، هي سطر في قصيدة أو القصيدة كلها. لا يزال في إمكاني أن أراه ممسكاً بيدي ونحن نمشي معاً في شارع الأميرات ببغداد. كان جبرا ابرهيم جبرا معلّم روحي. 
__________
* شاعر وناقد من العراق (النهار)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *