حاوره : محمد شعير
رسم إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الراحل صورة للمثقف باعتبارها ذلك الشخص الإشكالي المزعج والمقلق دائماً للسلطة..: «مهمته أن يطرح علناً للمناقشة أسئلة محرجة ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي بدلاً من أن ينتجهما… ويكون شخصاً ليس من السهل استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تنسى ويغفل أمرها على نحو روتيني». كان يتساءل دائماً هل يمكن أن نجد في ثقافتنا العربية ذلك النوع من المثقفين؟
قد يتبادر إلى الذهن شخصيات عديدة.. ولكن بالتأكيد سيحتلّ بهاء طاهر المقدمة.
ورث بهاء من والده الشيخ الأزهري النهم الشديد للقراءة والاعتزاز بالنفس، ورث عن والدته الحساسية المفرطة أحياناً.. حساسية جعلته يرفض لسنوات قبل الثورة مطالعة الجرائد ومتابعة نشرات الأخبار، وتحديداً بعد أن ضربت إسرائيل غزة.. وقتها أصيب بالاكتئاب الشديد لعجزه عن أن يفعل شيئاً بينما يقتل الأطفال بالقنابل يوماً وراء آخر ويلف العالم صمت عن الجرائم… في ذلك الوقت لم يتخلّف بهاء عن الكتابة ليفضح هذا الصمت، أو المشاركة في التظاهرات باعتبارها «واجباً وطنياً». نال نصيبه من القنابل المسيلة للدموع أو العنف المفرط من جانب السلطة أحياناً.. حتى قبل أيام من اندلاع الثورة المصرية. في تظاهرة للمثقفين بالشموع احتجاجاً على تفجير كنيسة القديسين (يناير 2011) هجم الجنود والضباط على المحتجين، ووقع بهاء أرضاً، وعندما ذهبنا غاضبين إلى الضابط المتوتر: كيف يحدث ذلك مع كاتب كبير حصل على جائزة تحمل اسم رئيسهم مبارك. قال الضابط إنه لم يقصد، ولكن الأوامر الصادرة لهم تمنع التظاهر هذه الأيام (بعد الثورة التونسية) والتصدي لها بقوة… ثم صمت قليلاً: «بس مين بهاء طاهر والغاضبين من أجله؟!».
في أول ايام الثورة (25 يناير) أصيب بهاء طاهر بجلطة في ساقه. لم يعرف الكثيرون بالأمر لأن صاحب «الحب في المنفى» كثيراً ما كان يتحامل على ساقه المتعبة ويتواجد في الميدان. الأسبوع الماضي تقريباً، كان ينهي جلسات العلاج الطبيعي ويتجه، أيضاً مستنداً على عصاه، لمساندة المثقفين ودفاعهم عن الثقافة، لم يتردد أن يستقيل من المجلس الأعلى للثقافة ويتنازل عن جائزة مبارك في أثناء الـ 18 يوماً لأنه لا يتشرف بجائزة تحمل اسم «ديكتاتور يقتل الشباب في الميدان»..
الموقف نفسه الآن يعيده بهاء باستقالته من المجلس الأعلى للثقافة بعد تعيين وزير ثقافة مهمته «تجريف الثقافة المصرية»… بهاء لم يتردد الأيام الماضية على أن يخرج من بيته في درجة حرارة مرتفعة كي يساند شباب الثورة والفن في وقفاتهم ضد «تجريف الثقافة»… لم يتردّد في «احتلال مكتب الوزير» والاعتصام به للمطالبة برحيله.. لم يبحث عن صوره «كأفندي».. او ما يجرّه عليه هذا الموقف من مشكلات فيما بعد.
بهاء طاهر مشاغب شاب يحمل عصاً يتوكأ عليها. هو لا يفعل ذلك انطلاقاً من موقف «رومانسي» لدور المثقف.. يقول: «أنا مجرد مواطن عادي عليه دور معين، له رأي في شؤون بلده».
في سنوات السبعينيات واجهت الثقافة المصرية تقريباً الوضع ذاته.. الرئيس السادات ينظر للمثقفين بريبة.. يختار المنفى كثيرون في تغريبة اعتبرت «التغريبة الكبرى» في الثقافة المصرية.. كان ممنوعاً نشر أي أعمال لأهم كتاب مصر بل من الممنوع ذكر أسمائهم في الصحف أو الإشارة إليها… أغلقت كل مجلات الثقافة «اليسارية».. مثل الطليعة وغيرها… هاجر المثقفون بأقلامهم وبأجسادهم، وقائع عندما يتذكرها صاحب «الحب في المنفى» يشعر بالتفاؤل لأن «الثقافة خرجت منتصرة في هذه المعركة، رغم اننا كنا قوة ضعيفة في مواجهة سلطة دولة بأكملها، وسلطة الوعاظ الذين جلبهم السادات من دول الخليج»… يضحك: «كان هناك مجلة اسمها الجديد، يرأس تحريرها رشاد رشدي كانت تخصص أعداداً خاصة لشتيمة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. ولكن لم تبق المجلة ولا الشتامون.. وبقي الحكيم ومحفوظ». المشهد الحالي هو تكرار لمشهد قديم إذن، مشهد بائس.. ولكنه أكثر خطراً: «لأن سلاح الدين هذه المرة يستخدم بشكل بائس، عندما يصف شخص أدب نجيب محفوظ بأنه أدب «دعارة».. ويستخدم الدين كحجة وسط جمهور ليس لديه ثقافة كافية للفرز يأتي من هنا الخطر». يضحك بهاء طاهر قبل أن يوضح: «قرأت مجموعة قصصية لعبد الجليل الشرنوبي الذي كان منضماً لجماعة الإخوان وكان رئيساً لتحرير موقع «إخوان اونلاين».. كتب في مجموعته أنه عوقب في الجماعة، لأنهم وجدوا لديه روايتي «الحب في المنفى» ونصحوه وقتها ألا يعاود قراءة مثل هذه الكتب مرة أخرى… هذه جماعة تدرب أعضاءها على السمع والطاعة.. وليس لديها علاقة بالثقافة، وآخر فرد فيها كان لديه علاقة بالثقافة هو سيد قطب في مرحلته الليبرالية، التي اعتبرها تاريخاً لم يكن.. الثقافة تفكير.. وهم ضد التفكير، ولا يريدون سوى السمع والطاعة».
وصف بهاء طاهر أيام الثورة.. وما تلاها بـ: «أيام الأمل والحيرة» وهو العنوان الذي اختاره لأحدث كتبه.. ولايزال يرى أننا نعيش هذا الوصف بعد وصول الإخوان إلى السلطة أيضاً يقول: «الثورة فتحت طاقات من التوقّعات والآمال الهائلة، حتى أنني قلت يوم تنحّى مبارك أنني فرحت فرحة تكفي عشر حيوات، لا حياة واحدة.. ولكن ما حدث بعد ذلك وضعنا جميعاً في حيرة، حتى أننا لا نعرف ما الذي يحدث في مصر ولا سبيل الخروج منه». يوضح فكرته: «هناك أمل لأن هناك قوة دافعة لهذه الثورة، كلما بدت أنها تموت، تبعث من جديد.. الآن هناك تململ لدى كل فئات المجتمع: القضاة غاضبون، والإعلام، والمثقفون، والشارع.. ولكن كل يعمل منفرداً، لا يوجد مسعى لتوحيد الجهود لنخوض معركة حقيقية تؤدي إلى النصر أو النصر أيضاً، لأن الثورة ستحقق أهدافها لقوة إيمان شباب الثورة.. وكل الثورات يحدث فيها انتصار وانكسار ولكنها تنجح في النهاية».
المثقف والمناصب
بعد الثورة رفض بهاء طاهر منصب وزير الثقافة، هو يؤمن أن المثقف لا ينبغي أن يكون في وزارة ما، يكفيه أن يكتب ويقول كلمته. سألته: ولكن طه حسين قبِل الوزارة في وقت من الأوقات؟ يجيب: «لست في مرحلة وحالة صحية تسمح لي بهذا المنصب. أنا أعيش الآن مرحلة كناسة الدكان، لا أطمع في منصب ولا أرغب في إثارة..». سألته: ولكن لو قبلت وزارة الثقافة ما الخطط التي كنت ستقوم بتطبيقها؟ يصمت قليلاً قبل أن يجيب: الخطط التي يمكن أن أقوم بتطبيقها هي تطبيق حرفي لوصايا طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر»… هل الأمر كارثة أن نعود إلى أفكار مضى عليها أكثر من 80 عاماً وكأن المجتمع لم يتطور أو يتحرك؟ يجيب: «ليس من العار أن نعترف أن هناك عقليات جبارة، تعيش ويستمر دورها طويلاً في المجتمع حتى بعد موتها، ولكن لو أردت أن أنفذ أفكار عميد الأدب العربي سأنفذها في ضوء المعطيات الجديدة، حيث وسائل الاتصال التي لم تكن موجودة أيامه.. ولكن الأهم أن الفكرة الرئيسية للعميد هي: «تعليم من أجل الديموقراطية» وهو ما ينبغي أن نعمل جميعاً من أجله الآن».
إهمال الثقافة في المجتمعات العربية، وتراجع دورها هو ما جعل الساحة خالية للثقافة السلفية والإخوانية… لذا يرى: «إنها معجزة أن يكون هناك جمهور للأدب وسط الطغيان الإعلامي الترفيهي، والرياضي، ووسط التعليم البالغ الرداءة، والأزمات الاقتصادية التي تجعل الكتاب في أدنى اهتمامات المواطن العادي.. حقيقة لا أعرف حلاً لهذا اللغز؟».
المثقف والأمير
قضية المثقف والأمير.. تحتلّ مكانة بارزة في مشروع بهاء طاهر الإبداعي والفكري.. هل هي خيانة المثقفين التي أوصلتنا إلى الإخوان المسلمين؟ أم أن المجتمع تتنازعه دائماً العلاقة بين الجنرال والفقيه؟ سألته وأجاب:
في الحقيقة، المجتمع يتنازعه صراع بين المثقف والواعظ، ولكن منذ السبعينيات أصبحت الغلبة للواعظ. بفضل المثقف أصبحنا مجتمعاً مدنياً، وبدأ ذلك بالاستقلال عن الخلافة العثمانية وفكرة الحكم الديني، ثم بدأت الحديث عن فكرة «المواطنة» التي أسهم فيها رفاعة الطهطاوي، الذي أكد أن المصريين متساوون في الحقوق والواجبات مهما كان دينهم. ثم جاء محمد عبده ليؤكد أنه لا ولاية لأحد على عقيدة مسلم إلا ضميره، ثم كانت النقلة الحاسمة بالاعتراف بحقوق المرأة وكانت أيضاً على يد محمد عبده وقاسم أمين. كل هذه كانت مقدمات للدولة الحديثة التي انتقلنا إليها مع تسرب أفكار الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وهي نقلة ساهم فيها المثقفون أمثال طه حسين ويوسف إدريس وآخرين، أجيال متعاقبة أسست للدولة المدنية، ولكن بداية من نكسة 67 بدأ المجتمع ينحّي المثقف جانباً لمصلحة الواعظ، بدعم قوي من الحاكم وتحديداً عندما تولى السادات الحكم.
ولكن أنت تعيد الأمر إلى نكسة 67؟
عبد الناصر كان مضطراً لذلك، لأنه كان يريد أن يبعث في الناس نوعاً من الأمل والإيمان بالقضية الوطنية التي لا يمكن الخلاف عليها، ومن هنا أسبغ بُعداً دينياً على القضية الوطنية، وهذا حدث في روسيا مع الغزو النازي، بدأ هناك نوع من المصالحة مع الكنيسة الأرثوذكسية التي لم يكن مُعترفاً بها، يعني في فترات الهزيمة يعود الناس إلى الدين دائماً. ولكن في أيام عبد الناصر لم تكن هناك محاولة لفرض هذه الرؤية الوهابية على الثقافة والمجتمع المصري. الذي فعل ذلك السادات خطوة خطوة حتى وصلنا الآن إلى الإخوان. ما أريد أن أؤكد عليه أن الخلاف الجذري على مدى القرن كان بين المثقف والواعظ، واستطاع المثقف على مدى عشرات السنين أن يُحدث نقلة هائلة لننتقل من دولة قرون وسطى إلى دولة حديثة، ولكن مع هزيمة 67 والانقلاب على مبادئ الثورة المصرية أصبح للواعظ الغلبة، ورجعنا مرة أخرى الآن إلى مفاهيم الخلافة العثمانية التي كانت «استعماراً دينياً من نوع غريب»، حسب وصف جمال حمدان.. ولو لم يكن لهذا الغزو قشرة دينية لحاربه المصريون كما حاربوا التتار.
أسأله: ولكن المثقف لم يكن سوى مفكر للجنرال، لم يكن يستطيع أن يحقق حداثة للمجتمع إلا مستنداً على سلطة الباشا أو الجنرال ولذا لم تبنِ الحداثة سلطة في الواقع مع الجمهور بقدر ما كانت تستند إلى سلطة قاهرة وقامعة؟
لن أختلف معك كثيراً، ولكن سأسألك سؤالاً: ماذا كان سيصبح محمد علي لولا وجود رفاعة الطهطاوي إلى جواره؟ وسأجيب أيضاً: سيكون مجرد حاكم مثل علي بك الكبير أو خورشيد باشا، لولا رفاعة ما كان محمد علي. الأمر الآخر رفاعة سافر إلى فرنسا في بعثة لتحديث الجيش المصري، إذن اقترنت حكاية النهضة بتكوين الجيش الوطني، وعلى مدى تاريخ مصر سنجد تناغماً بين الجيش والحركة الوطنية. ولكن لولا وجود رفاعة بجوار محمد علي لأصبح المجتمع مثل اليمن والحجاز وهي مجتمعات لم يحدث فيها ذلك التلاقح بين الحاكم الوطني والمثقف الوطني.
أزمة سيد قطب
تؤمن إذن أن المثقف يمكن أن يكون ناصحاً للأمير أو جسراً يعبر عليه الأمير لتحقيق طموحاته؟
ولكن ألا يمكن أن يعمل المثقف في مشروعه منفصلاً عن السلطة بدون الاستناد إليها؟
يحدث ذلك أحياناً، وبعد وقت قد تدرك السلطة أهمية مشروع هذا المثقف، ولكن للأسف لم يحدث ذلك كثيراً، مثلاً مشروع جمال حمدان في «شخصية مصر» لم يلتفت إليه أي حاكم، ولم يدرك أهميته.
وهل تعتقد أن المثقف محكوم بالأسلاك الشائكة في علاقته بالسلطة لا ينبغي أن يتجاوز هذه الأسلاك؟ مثلاً عندما كتب طه حسين كتابه «في الأدب الجاهلي» استند إلى سلطة تخلت عنه فرفض أن يعيد نشر كتابه، هل لا يخوض المثقف معركته من أجل الحرية إلى النهاية؟
هناك فرق بين التراجع عن الأفكار وبين المناورة. على مدى التاريخ الإسلامي لا يوجد من تراجع عن أفكاره إلا فقهاء السلطان الذين لا يذكرهم أحد بينما أبو حنيفة مثلاً تحمّل السجن والتعذيب، وفي فرنسا موليير كان جوهر أعماله ضد استبداد لويس الرابع عشر، ولكن كانت لديه مناورة في علاقته به. أي ينبغي أن نفرق بين المناورة والتراجع. ولكن أظن أن السلطة المصرية ارتكبت أكبر جرم في ما يتعلق بالثقافة وهو اللامبالاة، كان من حقنا أن نتحدث ونكتب كما نشاء ولكن لم يكن لكلمتنا أي أهمية. حتى أنني كتبت مرة أنني أحنّ إلى عصر الرقابة، لأن وجود الرقابة يعني أن لكلامك أهمية ما تزعج السلطة، ولكن اللامبالاة الكاملة في عصر مبارك تجاه ما نكتب لا تعني سوى أن كلامنا كان مجرد «طق حنك».
في دولة الخلافة التي تستند إلى مرجعية دينية زائفة عمّ «الخراب إقليم مصر» هذا الوصف للمؤرخ الشهير الجبرتي واصفاً ما جرى في مصر، وكاد المصريون يندثرون فعلاً لا مجازاً بسبب المجاعات والأوبئة وبارت الأرض الزراعية بسبب إهمال الحكم أعمال الري والصرف، ولهروب الفلاحين من أرضهم، فراراً من جباة الضرائب الفاحشة والمتكررة. وهذا أيضاً ما يشير إليه بهاء طاهر في كتابه الهام «أبناء رفاعة» الذي يحاول أن يجيب فيه على السؤال: كيف وصلنا إلى الإخوان؟
هو لم يفاجأ بنتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية من بعدها، كان احد همومه الرئيسية في الكتابة عن التصدع التدريجي، أو بالأحرى عن التحطيم الممنهج لمقومات الدولة المدنية والصعود المنتظم لتيار الإسلام السياسي يقول: الحقيقة الجوهرية، كما قلت هي أن الدولة المدنية المصرية تآكلت شيئاً فشيئاً. لقد قضينا قرابة قرنين من الزمان لبناء هذه الدولة التي أخرجتنا من عصور الظلام والتبعية التي غرقت فيها مصر قروناً طويلة، وتحقق ذلك بفضل جهود العشرات من أفضل العقول التي أنجبها هذا الوطن، وبفضل جهاد وتضحيات أجيال متعاقبة من المصريين الذين خاضوا حروباً وثورات شعبية للوصول إلى الاستقلال والحرية والمواطنة والاستنارة والعلم واسترداد كرامة المرأة في المجتمع، تآكلت هذه الدولة بفعل فاعل أو فاعلين معروفين على امتداد نصف القرن الأخير. ولم يكن الإخوان بعيدين أبداً عن هذا الانقلاب على الدولة المدنية، فقد ظلوا يعملون بدأب على مدى ثمانين عاما بوسائل مختلفة لم تخلُ في بعض مراحلها من السلاح والعنف للوصول إلى الحكم وتطبيق حلمهم في إقامة الدولة الدينية، وقد تحالفوا مرة أخرى مع السادات في السبعينيات، لكنهم كانوا أكثر ذكاء. ركزوا جهدهم على التغيير الاجتماعي البطيء ينشر رسالتهم وقيمهم المحافظة وسط الجماهير بالتدرّج في المدارس والجامعات والنقابات المهنية والإعلام في الريف والأحياء الشعبية، ويسر لهم ذلك بطبيعة الحال استنادهم إلى موارد مالية هائلة أتاحت لهم إقامة المشاريع الاقتصادية وبناء المدارس والمستشفيات.. الخ ونجحت هذه الخطة في بسط سيطرتهم شبه الكاملة على قطاعات المجتمع الذي تغيرت قيمه ومفاهيمه لتطابق فلسفتهم في الحياة. وبينما كانت السلطة السياسية في عهد مبارك تشنّ عليهم هجمات غشيمة متتالية، كانوا هم يحققون نصراً تلو الآخر في بسط سيطرتهم علي المجتمع. وكتبت مقالاً أيامها أقول فيه إن انتقالهم من حكم المجتمع إلى حكم الدولة هو مسألة وقت لا غير.. وساعدهم النظام الذي حارب الفكر اليساري والوسطي والليبرالي على حد سواء بكفاءة عالية، فلم يبق إلا الإخوان.
طاهر يرى أن الإخوان يعيشون الآن في أزمة يسمّيها أزمة سيد قطب: «الجماعة عرفت قيادتين استجابتا لحركة التاريخ المصري، حسن البنا أسس الجماعة وكانت استجابة للتغيرات التي حدثت للحركة الوطنية المصرية في فترة ما بين الحربين، ثم سيد قطب الذي أدخل مفاهيم الجهاد والتغيير بالقوة، البنا حمى الإخوان، ولكن ما فعله سيد قطب أدى إلى نوع من التشرذم، فالمجموعة التي تدير الجماعة الآن يسمونهم «العشرات» حيث قبض عليهم في الستينيات وقضوا في السجون عشر سنين، وهذه المجموعة خرج بسببها قيادات عدة من الجماعة مثل كمال الهلباوي، وأبوالفتوح، واستمرار هذه المجموعة سيؤدي إلى أن تفقد الجماعة ميزتها. وأعتقد أن الجماعة تحتاج الآن إلى مفكر من نوع خاص يجدد أفكارها ويقودها في مرحلة ما بعد الحداثة.. وأظن ليس لديهم هذه القيادة، وبالتالي أتوقع أن يصبح الإخوان جماعة عادية أقرب إلى التنظيمات السرية الكبيرة غير مؤثرة، وتقوم على أساس الولاء.
لا يكتب بهاء طاهر الآن، توقف تقريباً في العمل على روايته الجديدة لأن الكتابة كما يقول: «تحتاج لنوع من الاستقرار النفسي المفقود هذه الأيام بل منذ اكثر من عامين». في ذهنه مجموعة قصصية جديدة، كتب بعض قصصها، وهو عاشق لفن القصة، يراه فناً مظلوماً الآن. يقول: «الناس تفهم أن القصة مجرد حدوتة، هي ليست كذلك، أنا أريد وأنا أكتبها أن تكون اللغة والحدث مكثفين بما يقرب القصة من الشعر، لا أقصد اللغة الشعرية، ولكن أن يكون النثر نفسه شعراً». عندما يكتب بهاء طاهر، يضطر أحياناً إلى كتابة الجملة الواحدة عشرات المرات، حتى تصل إلى درجة من السهولة والبساطة.. يقول: «معركتى الأساسية مع اللغة».. ويوضح: «أسعى إلى لغة شفافة بسيطة ليس فيها نوع من «فرد العضلات اللغوية»، أو «استخدام محسنات بديعية شكلية» ومع ذلك تحتوي على شحنة جمالية تغذي القارئ.. لن تجد في كل كتاباتي كلمة واحدة يسأل القارئ عن معناها.. ولكن هذه السهولة والبساطة هي أصعب درجات الكتابة، وهذا ما كان يعنيه ابن المقفع عندما قال: «الذي إذا قرأه من لا يعرف ظن أنه يحسن مثله». أسأله عن مستقبل الأدب بعد ثورة يناير؟
يجيب: تولستوي تحدث في إبداعه عن غزو نابليون لروسيا بعد 50 سنة في روايته «الحرب والسلام..»، لن يحدث تعبير أتوماتيكي للحظة. فما يكتب الآن من شهادات «لا أعتبره إبداعاً ثورياً»، وهو خامة للأدب الذي سوف يكتب مستقبلاً. ولكن هناك التعبير المباشر للحالة جاء في قصيدة الأبنودي «الميدان» وكان تعبيرًا تلقائيًا وصادقًا عن مثقف مصري ناحية وطنه وهي أمثلة بالغة الندرة واستثنائية. وقرأت أعمالاً أخرى حاولت أن تفعل ذلك، ولكنها لا تحقق التأثير نفسه.. والتعبير الجيد عن الثورة سيتأخر. أسأله: منذ «الخطوبة» مجموعتك القصصية الأولى.. وحتى مجموعتك القصصية «لم أكن أعرف أن الطواويس تطير».. وما بينهما من قصص وروايات.. ما الثابت في تجربتك وما المتغيّر فيها؟
يجيب: لا متغيرات تقريباً، هناك ثابت وحيد فقط… «ألا أكتب إلا عندما يكون لديّ ما يستحقّ أن يُقال… كما قال ابن المقفع من قبل: «ما يأتيني لا يرضيني وما يرضيني لا يأتيني».. لذا لست كاتباً غزير الإنتاج، ما لم يكن لدي جديد فأعتبر أن الصمت فضيلة.
– السفير