*محمد أبو عرب- الشارقة
تروي الحكاية أن قرية “الشجرة” الفلسطينية التي تهجع بين مدينة الناصرة وطبريا شمال فلسطين، سميت بهذا الاسم لأن المسيح -عليه السلام- أصابه تعب من شمس نهار لاهب، فاستحسن شجرة ظلالها وارفة ليستظل بها، ويلتقط أنفاسه، وتكمل الحكاية: أن تلك الشجرة موجودة بين الناصرة وطبريا لذلك حملت القرية هذا الاسم، في تلك الأرض المحفوفة بالقداسة وفي عام ،1936 ولد الطفل ناجي سليم حسين العلي، وتربي على حكايات التراب المقدس .
سنواتُ عمره الطرية المشغولة بالجبل، والنهر، والشجر، مرت مثل برقٍ لم يكد يلمح منه سوى بقايا ضوء، وكأن الأعوام الاثني عشر الأولى من حياته ما هي إلا صفحة وحيدة تمهد لكتاب ممتلئ بالتعب، والنضال، والسجن، والتهجير، فما أن فتح عينه ذات نهار من عام ،1948 حتى وجد الرصاص يحيط به من الجهات كافة، وأهل القرية يستجيرون بأحراش الزيتون، فينجوا منهم من حالفه الحظ، ويُقتل من كان الرصاص أقرب إليه من حبل النجاة .
صورة الشجرة – قريته – لم تغب من باله، وكأن القتلى الذين شاهدهم يتكومون في طرقاتها، يستيقظون من موتهم في ذاكرته، ويصرخون بكامل دمهم “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، كأنهم يستعيدون الحنين وصوت الطفولة، ويقولون: “مرٌ مذاق العيش خارج هذه البلاد، حنظلٌ مذاقه وأكثر من ذلك” .
استيقظ الطفل ناجي على نهار جديد يقتسم فيه فراشه مع الكثير من الأولاد الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، استعاد ليلته الماضية مثل حلمٍ ضبابي؛ صورة أهله يحملون ما خف من متاع البيت، صوت هدير العربات والمحملين بها؛ جرحى، وقتلى، وأحياء، أمه تبكي، ملامح وجه أبيه المتهدم، تذكر كل ذلك، ونسي وجهه المعفر، وقامته النحيلة، نسيهما تماماً .
من “الشجرة” إلى “عين الحلوة”، كان يعن في باله التساؤل: أي شجرة وأي عين حلوة هذه؟ لا ظلال وارفة ولا ثمار ناضجة عادت في الشجرة، ولا عين ترعى ولا حياة حلوة في عين الحلوة؟ إنها الحياة الأكثر صلابة من يد طفل ظلت طرية .
في المخيم، عين الحلوة في لبنان، كان كل شيء مراً، حتى مذاق الشاي الذي كان يحتسيه في مقهى أبو مازن، إذ لا شيء يفعله سوى ارتياد المقهى، حيث يصغي لحكايات المنكوبين الذين يشربون الشاي ويعيدون كل يوم سرد حكاية بلادهم، ولا ينسون الحديث عن حرفتهم، أو في عصر الزيتون، ويشيدون بدبس قرية دون أخرى، وكأنهم يرشّون قليلاً من الفرح على كل ذلك التعب والشقاء .
بدا كل شيء يحيل إلى الشقاء والتعب، فبعد أن التحق ناجي بمدرسة “اتحاد الكنائس المسيحية” وحصل على شهادة “السرتفيكا” اللبنانية تعذّر عليه متابعة الدراسة، فاتجه للعمل في البساتين في قطف الأسكدنيا، والحمضيات، والزيتون، لكن بعد مدة ذهب إلى طرابلس ومعه صديقة محمد نصر الذي سيصاهره ناجي بعد ذلك، ليتعلم صنعة في المدرسة المهنية التابعة للرهبان . تعلم هناك لمدة عامين، ثم غادر بعد ذلك إلى بيروت، حيث عمل في ورش صناعية عدة، فنصب خيمة قديمة من خيم وكالة الغوث، في مخيم شاتيلا، وعاش فيها حياة تقشف، وفي عام1957 سافر إلى السعودية بعد حصوله على دبلوم الميكانيكا وأقام هناك لمدة عامين وكان يشتغل ويرسم أثناء أوقات فراغه .
في عام1960 دخل ناجي الأكاديمية اللبنانية للرسم “أليكسي بطرس” لمدة عام، إلا أنه ونتيجة ملاحقته من قبل الشرطة اللبنانية، لم يداوم إلا شهراً واحداً، وما تبقى من العام الدراسي أمضاه في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية، حيث “أصبح زبوناً دائماً لمعظم السجون، تارة يضعونه في سجن المخيم، وأخرى ينقلونه إلى السجن الأثري في سجن القلعة في صيدا، وإذا ما ضخموا له التهمة فإنهم ينقلونه إلى سجن العاصمة، أو المناطق الأخرى” .
كما هي العادة فإن الحياة لا تدوم على حالها، حيث انتقل ناجي إلى مدينة صور ودرس الرسم في الكلية الجعفرية لمدة ثلاث سنوات، ليسافر في عام 1963 إلى الكويت ويعمل في مجلة “الطليعة” الكويتية رساماً ومخرجاً ومحرراً صحافياً .
في تلك الفترة ظهرت شخصية “حنظلة” التي ولد في 5 يونيو/ حزيران من عام 1969 في “السياسة” الكويتية، هو صبي في العاشرة من عمره، يدير ظهره للجميع .
ظل ناجي يعمل في الكويت وتنقل بين عدد من الصحف منها “السياسة”، و”القبس”، وعمل في “السفير” اللبنانية خلال فترات انتقاله بين الكويت ولبنان، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه الرحيل، فبعد أن ضاقت عليه البلاد العربية هاجر في عام 1985 إلى لندن وعمل في”القبس” الدولية .
في إحدى النهارات اللندنية الهادئة، اتجه ناجي إلى عمله وحيداً، يرتدي قميصاً وكنزة ربيعية، يمشي بقامته الممشوقة وملامح وجهه الهادئ تبدو كعاشق من العصر الفيكتوري، كان يحث الخطى نحو مبنى “القبس”، ولم يكن يعلم حينها ما يخبئ القدر له، إلا أن رصاصة محترفة اخترقت مؤخرة عنقه وخرجت من وجهه تاركة دمه يغرق الرصيف .
اغتيل ناجي في 22 يوليو/تموز من عام ،1987 ورقد في المشفى بين الحياة الموت إلى أن توفي في 29 أغسطس/آب ،1987 كحمامة برية بيضاء، تركت خلفها 40 ألفاً من الرسوم الكاريكاتيرية .
__________
*(الخليج) الثقافي.