*زياد جيوسي
(ثقافات)
صباح الخير يا عمّان، صباح الخير يا حلوة، عبارات أكررها دوماً للشاعر غسان زقطان كتبها في منتصف سبعينبات القرن الماضي، فالصباح في عمّان له دوماً نكهة الدفلى والشيح، وأسمعها تهمس لي: يا طيفي الحاضر الغائب، إني أعشقك الى درجة الهذيان، فحروفنا التي نقشتها تشعلني بشوق لأضمك وأهمس بصمت: أشتاقك بحب متجدد ومتمرد، أشتاقك بشوق البلابل للشدو يا حبي، فأهمس لها: أيا عمّاني ومناي؛ ها أنا أجلس في بيتي العمّاني أحتسي القهوة مع شدو فيروز وأنت تجلسين معي، وأهمس لكِ: ما أجمل الصباح والتحليق في أفق عينيك وأفقك الممتد حلماً وهوى وتمرداً وجنون حب.
عمّان التي أعتدت أن أسميها عمّان الهوى، والتي حنت علّي طفلاً ورعتني شاباً، وضمتني بحنان حين بلغ مني المشيب، رغم قسوة بالغة تعرضت لها فيها وأنا في مراحل الشباب، في مرحلة ساد فيها غياب العقل، إلا أن عشق عمّان لم يفارقني، وما زلت أهمس: (أنا وعمان ربينا سوا)، فقد عرفتها حين كانت بلدة صغيرة تنمو وتتألق بهدوء، وأحياناً بطفرات غير محسوبة، لكنها كانت أبداً في ذاكرتي عروس المدائن، وفي العديد من المقابلات الصحافية قلت عن العلاقة التي تربطني بعمان ورام الله: هما رئتا القلب يفصلهما نهر مقدس.
عمّان التي كتبت لها الكثير من همسات الجوى والشوق في الحضور والغياب، لا يمكنها وتلها الأخضر المرتفع إلا أن ترافقني، فقد كانت لي دوماً حباً وعشقاً وربى ومنى، وكلما وصلتها من رام الله أو من أي رحلة أخرى أجول ما يمكنني التجوال فيها، أحمل قلبي وقلمي وعدستي، أجول وأجول من الأحياء على الأطراف حتى الوصول إلى قلب المدينة النابض بعبق التاريخ وأدراج المدينة التي يحمل كل منها ذكرى عندي، حتى أن الإعلامية والكاتبة رائدة شلالفة، بعدما جلت بها قلب المدينة ذات مرة أحدثها عن ذاكرة المكان، فاجئتني بنصين شعريين بعنوان “أدراج المدينة” أهدتهما إلى بكلمات: إلى الإنسان الحقيقي زياد جيوسي.
في كل مرة لا بد أن يكون لجبل اللويبدة بشكل خاص زيارة، فهذا الجبل ارتبط بالذاكرة منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي في بدايات الشباب، ربما لأن طبيعته الجميلة والهدوء الذي كان يسوده كان يثير في داخلي التجوال فيه والتأمل، فهو كان وما زال يختلف عن كل تلال عمان وجبالها السبعة بتواصله مع وسط المدينة، فكنت أصل إليه وأجول به وأعود إلى وسط المدينة بسهولة، فلا أتكلف مبالغ أجور سيارات الأجرة التي كانت بالكاد تتوفر لدي، إضافة إلى أن المسير من دوار الحاووز حتى ساحة متنـزه اللويبدة والتي أصبحت حديقة جميلة تحمل اسم حديقة المتحف الوطني للفنون الجميلة، وهي بالأصل موقع لبستان جميل يعود لعبد القادر طاش، والذي يقال إنه من أقدم الأشخاص الذين تملكوا في جبل اللويبدة، سهل وغير متعب سيراً على الأقدام لقلة المرتفعات والمنحنيات، ودوار الحاووز والذي حين عدت إلى عمّان بعد غياب متواصل استمر أحد عشر عاماً، وجدت اسمه قد أصبح دوار باريس، لكني ما زلت مصراً على التسمية القديمة، حتى أني في زيارتي السابقة ذهبت بسيارة أجرة من خلدا حتى اللويبدة لحضور أمسية في رابطة الكتاب، وقلت للسائق دوار حاووز اللويبدة، فضحك وقال: يظهر أنك من جيل اللويبدة أيام زمان.
جبل اللويبدة بمساحته المقدرة بثمانية كيلومترات مربعة لا أظن أن هناك شارعاً رئيساً أو فرعياً أو حياً منه لم أتجول به، فهو كما أسلفت ارتبط بالذاكرة وبدايات الشباب، وزاد من هذا الارتباط أن والدي أطال الله في عمره افتتح على دوار الحاووز محلاً تجارياً استمر به حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، فكنت أزوره للمساعدة أحياناً أو بسبب الشوق إليه وللوالدة رحمها الله، التي كانت تتواجد معه معظم الوقت أو أثناء تجوالي المحبب في اللويبدة، وتنشق عبق الياسمين المنتشر به، واللويبدة كجبل من أقدم جبال عمّان فهو يعود إلى بدايات القرن الماضي، وتميز كثيراً بنمط البناء به، وسكنته عائلات ذات وضع اجتماعي ومالي متميز، فعرفت منه منازل غاية في الجمال ونمط البناء، وما زال منها بالذاكرة بيت عبد الحليم النمر الحمود، والذي تميز بحدائقه ونمط البناء، وهو بالأصل جرى بناؤه على آثار كنيسة بيزنطية قديمة، تشير إلى الدور الذي لعبه جبل اللويبدة عبر التاريخ، وهذا البيت الآن تحول إلى دارة الفنون، إضافة إلى بيت بديع يعيش والذي بني من الحجر الأصفر الموشح بالوردي والمنقوش بجماليات متميزة، ويعتبر من أجمل بيوت الأردن معمارياً في تلك الفترات وما زلت أراه كذلك، وما زلت أحرص أن أتأمله من بين قضبان بواباته المغلقة، فأعتقد أن لا أحد يقيم به الآن، إضافة إلى العديد من المباني ومنها ما عرف بالبيت الأزرق وسكنه حاكم عكا وأصبح أيضاً ضمن دارة الفنون كما بيت الشاعر فؤاد الخطيب وبيت عبد الحليم النمر ، وأجول وأرى غيرها من البيوتات التي ميزت اللويبدة بعبقها وتراثها.
اختلف العمانيون حول أصل اسم الجبل، فهناك من قال إن الاسم يعود لنبتة تدعى لويبدة كانت تنبت به، والبعض قال إن الضباع كانت (تلبد) به وتسكنه، والبعض قال إن الاسم يعود إلى أن الرعاة كانوا يرعون مواشيهم فيه و(يتلبدون) بالفراء والصوف، وحقيقة بحثت كثيراً منذ زمن عن أصول الاسم وسبب التسمية ولم أجد جواباً مقنعاً، فعمان تعود بقدمها إلى تاريخ قرية عين غزال شمال عمان والتي أصبحت بعضاً من ضواحيها، ووجدت بها آثار وتماثيل تعود للعصر النيولثي وعمرها ما يقارب عشرة الآف سنة قبل الميلاد، إضافة إلى آثار بيزنطية ورومانية في عمّان من القرن الثاني بعد الميلاد ومنها المدرج الروماني وسبيل الحوريات، واللويبدة وجدت بها آثار بيزنطية، ما يخلق عندي قناعة أن الاسم أقدم بكثير من الذاكرة الشعبية، وأنه قد يكون اسم قديم جرى تحريفه عبر الزمان.
ما يعنيني الآن أني كلما وصلت عمان أجول اللويبدة، وكلما قرأت اسم شارع استعادت ذاكرتي الكثير من الأدب والشعر، فأسماء الشوارع غلب عليها أسماء شعراء وأدباء وكُتاب وشخوص تاريخية، وأينما تجولت في اللويبدة فذاكرة المكان تشدني ما بين مواقع الثقافة وأمكنتها، فمن رابطة الكتاب إلى رابطة الفنانين مروراً بجمعية مناهضة الصهيونية والعديد من المحترفات الفنية والأبنية التي تروي الكثير من أحاديث الذاكرة والتراث، وما زلت أحرص بين الحين والآخر أن أنزل وسط المدينة عبر درج الكلحة، فأستعيد ذكريات شبابي المبكر حين كنت أصعد عبره وأعود إلى وسط المدينة، والذي ارتبط بذاكرتي بمحل (أبو علي) لحلويات القطائف الرمضانية، ومطعم الكلحة الذي كان يتاح لي أن آكل به الفول والحمص أحياناً، وكم سعدت حين وجدت بناية تراثية تعود لثلاثينيات القرن الماضي على هذا الدرج وقد تحولت إلى مركز ثقافي، وأحرص دوماً حين أكون في عمان أن أحتسي القهوة في مقهى ركوة عرب حيناً وفي مقاه أخرى حيناً آخر، وفي رابطة الكتاب التي سعدت بعودتها إلى اللويبدة كما كانت في الأصل، بعد أن غادرته إلى الشميساني لفترة، وهذه الرابطة التي شهدت حفل إشهار وتوقيع كتابين من كتبي، لها بالقلب مكانة خاصة، فاللويبدة من الدرجة الأولى من درج الكلحة مروراً بسينما الخيام ودوار الحاووز وحديقة متنـزه اللويبدة، وصولاً إلى كنيسة سيدة البشارة ومسجد الشريعة، وكل الدروب فيها لها في الذاكرة ما لها من جمال وذاكرة.
صباح آخر لكنه عمّاني النكهة والهوى، يرافقني طيفي الذي لا يفارقني في حلي وترحالي ويهمس لي: لن تفارقك سيدة النور وستخرج منك صهيل الليل وبكاء المطر، وستضمك بكل جنون العشق والحب والشغف بلا حدود، ترافقني به فيروز وهي تشدو لعمّان: (هذا الضحى العمر انتشى وصحا كالحب طاب الحب ذات ضحى، يسألنني فيه صفيه لنا سمي رفضت السر مفتضحا، الله في فرح نعانقه ليلاً وبعد نعيشه صبحا، غنت به الورقاء تعطفه وسما به النسر الذي جمحا، و تمر عمانية فمها من أقحوان أو ندى وضحا، ترمي إلي سؤالها أترى تدرين من حبي ومن جرحا، لقياه لي كانت على طلل صخر به من أهلي الصرحا، وشغاف عمان تطالعنا قلت البطولة وهجها لفحا).
فأهمس لطيفي ولعمّان ولكم جميعا: صباحكم أجمل.
___________
* كاتب من فلسطين