رسائل خليل حاوي إلى تلميذته


*سلمان زين الدين

إذا كان حضور بعض الأنواع الأدبية ارتبط تاريخيّاً بالحاجة التي تمليها ضرورات الحياة، فيأتي أدب الرسائل، على سبيل المثل، ليشكّل وسيلة تواصل بين الذين تفصل بينهم الجغرافيا وتربط بينهم القرابة أو الصداقة أو الحب، فإن انتفاء الحاجة بزوال الضرورات، وموت الجغرافيا بفعل وسائل التواصل الإلكترونية وأدوات الاتصال الحديثة، أحالا بعض الأنواع الأدبية، وفي صلبها أدب الرسائل، على التقاعد، فحلّ البريد الإلكتروني والهاتف الخليوي محل الرسالة، وبات العثور على الرسائل المكتوبة نوعاً من اللقى الأثرية.

من هذه العتبة، أدخل إلى كتاب نازلي حمادة «رسائل خليل حاوي إلى نازلي حمادة» (دار نلسن)، تلميذته في الجامعة الأميركية في بيروت، خلال الخمسينات من القرن الماضي، وصديقته في ما بعد حتى عام 1970. ولعل ما يميز هذه الرسائل عن غيرها أنها رسائل أستاذ إلى تلميذته الصديقة، يجمع فيها المرسِل بين دوري الأستاذ والصديق، يختلط فيها الإخبار والبوح بالنصح والإرشاد، وتتكشّف عن جوانب معيّنة في شخصية صاحبها. على أن نازلي حمادة تكتفي بنشر رسائل حاوي إليها دون رسائلها إليه بذريعة أنها لا تعلم ما حلّ بها، الأمر الذي يجعل الكتاب أحاديّ الاتجاه، ويُفقده فرصة حوار مجدٍ بين جيلين مختلفين بواسطة الرسالة. مع العلم، أن المرسَل إليها، كما يتبيّن من مضمون الرسائل، لا تبتغي كسر مزراب العين أو الظهور بمظهر المرأة المحبوبة المخطوبة الود أو تعرية شخصية المرسِل وإبراز مكامن الضعف فيها، ولا تهدف إلى إثارة غبار إعلامي حول علاقتها به وتحقيق مكاسب معنوية أو مادية عارضة، بل إن نشرها الرسائل السبع والبطاقات البريدية الأربع التي تشكّل مادة الكتاب يأتي بعد نيّفٍ وخمسة عقود على كتابتها، وبعد ثلاثة عقود على رحيل خليل حاوي منتحراً، وبتشجيع من الأديبين محمود شريح وسليمان بختي.
يشتمل الكتاب على سبع رسائل وأربع بطاقات بريدية، أرسلها حاوي إلى نازلي حمادة، بين عامي 1956 و1959، من جامعة كمبردج. ويشتمل على رسالة وحيدة لم ترسلها حمادة إلى حاوي، بعد ثلاثة عقود على وفاته، تستعيد فيها طبيعة العلاقة بينهما، وتُبدي مقداراً كبيراً من الاحترام له، وترسم صورة قاتمة عن الأوضاع بعد رحيله، فما أشبه اليوم بالأمس.
يُصدّر حاوي رسائله بعبارة «عزيزتي نازلي» في ستٍّ من رسائله، وبعبارة «إلى نازلي» في واحدة منها.ويُذيّلها بعبارة «ودمت للمخلص حاوي»، أو «المخلص حاوي»، أو «خليل حاوي»، أو «ودمت ولك ألف شكر من حاوي»، أو «وإلى اللقاء دمت خليل حاوي»، أو «فإني على موعد ودمت خليل حاوي». وهكذا، يتوحّد التصدير، ويتعدّد التذييل في الرسائل، ويختتم ثلاثاً منها بحاشية يرسل فيها سلاماً أو يتدارك منسيّاً أو يقدّم توضيحاً أو يعلّل مطلباً، ما يجعل الحاشية جزءاً لا يتجزّأ من الرسالة وليس مجرد ذيلٍ لها. وتتفاوت الرسائل في مساحتها، وتتراوح بين صفحة واحدة في الحد الأدنى (الرسالتان الخامسة والسابعة) وثماني صفحات في الحد الأقصى (الرسالة الرابعة).
جوانب من شخصيته
وانتقالاً من الشكل إلى المضمون، تتكشّف الرسائل عن جوانب معيّنة في شخصية خليل حاوي، لعل أبرزها الأستاذ والصديق والمغترب…، ولكلٍّ من هذه الجوانب تمظهراته في الرسائل. فخليل الأستاذ يتمظهر في رسالتها التي لم تُرسل إليه وفي رسائله إليها، من خلال تلك العلاقة الخاصة التي تربط بينه وبين نازلي وزميلاتها، وهي علاقة تتعدى الإطار التقليدي للصف إلى الكافيتيريا والمقهى والمطعم والنزهات المشتركة. فهل كان خليل حاوي يعيش مراهقة متأخرة من خلال هذه العلاقة لم يُتَح له أن يعيشها في وقتها، باعتبار تأخره في متابعة الدراسة وتقدّمه سنّاً على زملاء الدراسة، فتأتي علاقته بتلميذاته لتشكّل تعويضاً عن حرمان عاطفي عاشه في مراهقته؟ ويتمظهر الأستاذ في شخصيته من خلال خوفه على طلابه، وحرصه على متابعة أخبارهم، وتشجيعه الدائم لنازلي، ومدّها بالنصائح الأدبية والشخصية، واعتباره طلابه وطالباته أصدقاءه وصديقاته دون الآخرين / الأخريات. ويترجم هذا الجانب، بلغة الوقائع، حين يُفضّل مقطعاً من رسالة نازلي حول مجموعته الشعرية «نهر الرماد»، وهي تلميذته، على مقال لنسيم نصر في مجلة «الآداب»، وهو أستاذه. ويترجمه بدعوة تلاميذه أن يكفروا به ساعة يجدون أنه تخلّف وأن صلته بهم قد أصبحت قيداً لهم (ص49). ويترجمه بإبداء حرصه على معرفة رأي تلميذته في قصيدته «وجوه السندباد» التي نشرتها مجلة «الآداب».
وخليل الصديق هو، في الرسائل، نتيجة خليل الأستاذ وامتدادٌ له. يعبّر عن ذلك بالكلمة والموقف والممارسة العملية؛ فيقصد تلاميذه حين يكتب: «سوف نحاول أن نحقق ما لا يستطيع تحقيقه دجّالو العلم والسياسة في لبنان، لأن هؤلاء يبنون على رمل، أمّا نحن فسوف نبني، كما بنى أفلاطون من قبل، سوف نبني على صخر الصداقة الطيبة» (ص32،33). ويعتبر أن طلابه وطالباته «هم وحدهم ووحدهن الأصدقاء والصديقات» (ص73). ولا يتورّع عن عرض المساعدة المادية على نازلي، تلميذته وصديقته، لمتابعة دراستها الجامعية، وعرض المساعدة المعنوية لتأمين فرصة عمل لها.
أمّا خليل المغترب، فيتمظهر، في الرسائل، في إحساسه بالألم لوجوده بين قوم لا تهمّهم مأساتنا، وفي ضيقه وهو الشرقي بالحد الذي بلغته حرية المرأة في الغرب «فذهبت بجميع الحدود والمحرّمات وكذلك ذهبت بحرمتها وقداستها في نفس الرجل» (ص35)، وفي ضيقه ذرعاً بحياته هناك نبتةً بلا شروش ونفساً مكرهة على ما لا تريد ووقتاً ثقيلاً في العمل ووقتاً ضائعاً في الترفيه، وفي وحدته القاتلة «فرسائلي إلى الناس نادرة وكذلك رسائل الناس إليّ أندر من الكبريت الأحمر» (ص77)، وفي انزعاجه من طلبها إليه عدم العودة إلى لبنان، وفي دعوته إياها إلى عدم مغادرة لبنان، وفي حنينه المرعب إلى العودة «أنا أحب الكبة والتبولة والعرق والنكات بالعربي، وما لي غنى عنها، ولا أطيق أن أكون ترجماناً طول العمر» (ص57).
إلى ذلك، تشي الرسائل بخليل المؤمن بنهضة أمّته، وخليل المثقف الرسالي الذي يزمع التضحية في سبيل الأجيال المقبلة ويدّخر ما يقوله حين تأزف الساعة، وخليل الناقد الذي له آراؤه في الشعر والكتابة…
وبعد، لعل القيمة الحقيقية لهذه الرسائل لا تكمن في أدبيتها، الأمر الذي لم يقصده كاتبها نفسه، لا سيما حين راح ينتقد ثرثرتها من دون إفصاح وغموضها وتطويلها ونسجها المهلهل وعبارتها المفككة، وهو يقسو على نفسه في ذلك، بل تكمن في إضاءة جوانب من شخصية الشاعر، وبذلك، تشكّل وثيقة شخصية / نفسية / تاريخية مهمة. ويأتي نشرها من قبل المرسَلة إليها، بتشجيع من شريح وبختي، خطوة في الاتجاه الصحيح.
_______
*(الحياة)

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *