*زياد جيوسي
(ثقافات)
الحلقة الثامنة
هي بيت لحم حين تستلب الروح فيفكر زائرها أن يبقى بها أبداً، فليس من السهل بعد التجوال بها أن يتمكن المرء من استعادة روحه التي تكون قد تعلقت ببيت لحم وبلداتها وتراثها وتاريخها حيث الجمال والبهاء والسناء، فبيت لحم من خلال ما شاهدت من جمال وما تنشقت من عبق رايتها حورية كنعانية جميلة تنثر شعرها الغجري في فضاء المكان، فلا يمتلك عاشق للجمال مثلي إلا أن يقع في حبها ولا يقاوم، فمنذ لحظة وصولي إليها بالدعوة الأولى من مؤسسة الباب والتي لم تستمر أكثر من ساعات معدودة حتى شعرت بها قد استلبت روحي، وفي الزيارة الثانية والتي استمرت أحد عشر ساعة كنت قد أصبت بصعقة الحب فلم أمتلك إلا أن أكون عاشقاً يكتب كل قصائد الحب والغزل لمخاطبة المحبوبة، وحين غادرنا أرطاس باتجاه بلدة العبيدية كنت أشعر بنبضات القلب تدق بقوة رغم حجم الإرهاق الذي كنت أشعر به، ومع هذا لم أجد أية رغبة بالتوقف، فحثثت صديقي خالد الصيفي مدير ومؤسس مؤسسة إبداع على السرعة للقاء العبيدية، والذي كنت قد أتعبته كثيراً معي، وإن ما كان يغفر لي أني قد وضعته بالصورة مسبقاً، فمثلي لا يعرف الراحة والهدوء حين يعانق الأمكنة، فكيف حين يكون العناق مع معشوقة كنعانية كل ما في روحها وجسدها قصيدة عشق وجمال؟
وصلنا بلدة العبيدية وكان بانتظارنا المربي الفاضل محمد الردايدة (أبو وائل) وولده الشاب الرائع وائل، وأصروا أن يستضيفونا أولاً قبل الجولة كما عرف عن أهل العبيدية من كرم عربي أصيل، لكني اعتذرت وهمست لهم: لندع الضيافة بعد الجولة فأخاف أن يسرقنا الوقت، واتجهنا من العبيدية باتجاه دير مار سابا، وكلمة (مار) تعني السيد وهو أحد القديسين والمؤمنين الذين انتسبوا إلى هذه الأرض، فعشقوها وتعبدوا بها، فدير مار سابا اختار مكانه القديس سابا في مكان منعزل وبعيد وبناه عام (484) م، ويروى أن مار سابا صار راهباً وعمره ثماني سنوات في كبادوكية (تركيا)، وجاء إلى الأرض المقدسة في عمر ١٨عاما، وقد بدأ التعبد في هذا المكان وبنى الدير فيه، ولم يفارقه حتى توفي فيه عام ٥٣٢ م، وبعد سنوات وأثناء الحروب الصليبية والاحتلال الصليبي لفلسطين، حمل الصليبيون جثمانه إلى البندقية في إيطاليا لأكثر من سبعة قرون، وتمت إعادة الجثمان لمكانه عام ١٩٦٥م.
وكما كل قصص الأديرة في بيت لحم نجدها بنيت على كهوف يقال إن سيدتنا العذراء مرت بها أثناء فرارها بسيدنا المسيح ابن مريم طفلاً، ويقال في بعض المصادر الضعيفة إن سيدنا المسيح ولد هناك في الكهف الذي كان النواة لبناء الدير، فقطعنا مسافة طويلة في تلال مرتفعة عبر مناطق جرداء، حتى أطللنا على الدير المطل بدوره على وادي القدرون، فأوقفنا السيارة في ساحة وقوف السيارات وبمجرد نزولي وقفت بصمت أمام هذه الأبنية المثيرة للرهبة والتي تروي حكايات عبق تاريخ من وطني، وبدأت عدستي بالتقاط الصور خارج الدير، فالتصوير بداخل الدير غير مسموح به، لذا اهتممت بأن توثق عدستي كل مشاهد الدير من الخارج، وكون الدير مطل على وادي القدرون، ولا يظهر لنا حين الوصول إليه إلا المشهد الخارجي العلوي، فقد اتجهنا إلى المنطقة خلف الدير ونزلنا مسافة طويلة على درج متهدم في العديد من زواياه، ما يشكل خطورة لو زلقت قدم أحدنا، ولكن رغبتي القوية بالتصوير للدير من الواجهة التي تطل على الوادي كانت قريبة، ولا وسيلة إلا النـزول لمسافة طويلة في الوادي، أو الوصول للجبل المقابل وهذا ليس هناك إمكانية له، وأصر صحبي أن يرافقوني النـزول على هذا الدرج المتهالك ولا يتركوني وحيداً.
الدير شهد كما كل المنطقة والأديرة حكايات كثيرة عبر التاريخ، فهو لم يشيد مرة واحدة بل عبر فترات زمنية، ولذا نرى أن نمط البناء لا يتبع نمطاً هندسياً محدداً، وإن كان أشبه بقلعة حصينة تشابه القلاع المنتشرة في بلاد الشام، والدير تعرض للتدمير كغيره من الأديرة على يد الفرس فدمروه عام 614م وقتلوا كل من فيه، كما دمروا الكثير من الأديرة حين احتلالهم فلسطين، وفي داخل الدير مواقع كثيرة ممتلئة بالجماجم لمن قتلوا في الدير، وقد تعرض الدير إلى الهجرة منه أكثر من مرة بسبب الظروف التي أحاطت بالمنطقة، حتى جرت عملية إعادة ترميمه وبناءه عام 1840 م، وأصبح قبلة للزوار وما زال، وللدير قوانينه الخاصة عبر الزمان، فهو ما زال بدون تمديدات ماء أو كهرباء أو اتصالات، وما زال الرهبان يعيشون على ضوء الشموع ومياه نبع يأتي من بطون الجبال، ويعتبرون أن أي وسيلة حضارية تصل للدير ستشوش عملية الاتصال الروحي بالله، ويعتبر هذا الدير من أكثر الأديرة تقشفاً وزهداً، فالزراعة الوحيدة فيه بعض من أشجار الزيتون والليمون، فالرهبان يعتبرون أن الاهتمام بالزراعة الزائدة قد يعطلهم عن العبادة، وأيضاً تمنع النساء من دخول الدير بالمطلق، ويقال إن هناك معتقد أن المرأة إذا دخلته فسيتعرض الدير إلى زلزال، ويروى أن مجندة إسرائيلية من قوات الاحتلال تمكنت من دخول الدير فاهتز، لكن لا شيء يؤكد هذه الحكايات، وينسب للقديس مار سابا أنه من استن قانون منع دخول النساء للدير، وأنه كان يستقبل والدته في غرفة خارج الدير حين تزوره ولم يسمح لها بدخول الدير أبداً، ويقول بعض الرهبان أن سبب المنع هو كي لا يكون هناك شهوة تؤثر على التفرغ للعبادة، وأعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي، ويوجد خارج الدير برج خاص لاستقبال النساء كي لا يدخلن الدير بالمطلق، ومن قوانين الدير أنه يمنع أكل التفاح بالمطلق، وسبب هذا المنع أن القديس مار سابا أراد أن يأكل تفاحة في غير وقت الطعام المقرر، فشعر أن في ذلك شهوة فقرر الامتناع عن أكل التفاح تماماً، فاتبعه الرهبان في ذلك وحرم أكل التفاح منذ ذلك الوقت.
الدير كما كل الأديرة التابعة لطائفة الروم الأرثوذكس في منطقتنا يخضع للكنيسة اليونانية بالكامل، وهناك صراع يعود إلى عام 1872م من أجل إعادة تعريب هذه الأديرة والكنائس يقوده المسيحيون العرب الأقحاح من أجل إعادة الإشراف على الكنائس والأديرة للمسيحيين العرب، فهذه الأديرة تراث يعود لهم وتاريخها عروبي فلسطيني، والكثيرون ممن أنشأوا هذه الأديرة وسكنوها هم من أبناء هذه الأرض، ومنهم كمثال يوحنا الدمشقي والمسمى منصور بن سرجون كان من أشهر من سكن هذا الدير، وهو عربي الدم والانتماء وأمثاله كثر، وعدد أبناء الطائفة من العرب يتجاوز المائة وخمسون ألفاً بينما اليونان لا يتجاوزون الألف ويتحكمون بكل شيء، فالقضية وطنية أولاً وأخيراً…
ولعل أهم ما في هذا الدير الذي اضطررت لزيارة أخرى له للدخول بعد أن أغلق باب الدير في زيارتي برفقة صحبي، أن يحتوي على رفات القديس مار سابا في صندوق زجاجي، وقد انكمش قليلاً وذاب بعض جلده ويؤكد الرهبان أن الجثمان لم يحنط وأن بقاءه كما هو مكرمة إلهية، ويوجد بداخل الدير العديد من الكهوف والكنائس والصوامع ومنها صومعة القديس يوحنا الدمشقي والبرج الذي يرتفع 18م، والذي يحتوي مكتبة ثمينة، وكان يستخدم للمراقبة وبني في القرن السادس الميلادي.
غادرنا دير مار سابا عائدين إلى العبيدية ضيوفاً إلى منـزل المربي الفاضل (أبو وائل) الردايدة، فقد أصر وبكل قوة إصرار أحفاد العبيدي فارس العربي الأصيل الذي أسس العبيدية أن يستضيفنا على العشاء، فاعتذرنا بقوة شاكرين، واحتسينا القهوة والشاي والعصائر في بيته وبحضور الأبناء ومنهم وائل، ولم يتركنا إلا بعد وعد منا أن نتناول طعام الغداء عنده حين أعود مع صديقي خالد الصيفي لاستكمال زيارتي لبيت لحم.
وغادرنا العبيدية مودعين بمثل الحفاوة التي استقبلنا فيها من المربي الفاضل أبو وائل وأسرته، وقد أصررت على صديقي خالد الصيفي أن يوصلني لموقف السيارات المتجهة لرام الله معتذراً عن المبيت في ضيافة خالد، فأنا كنت منهكاً جداً ولدي ارتباطات مهمة في رام الله في اليوم التالي الأحد، فأوصلني للموقف وودعته هامساً له: شكراً لك هذه الدعوة والجولة الرائعة، فقد أتعبتك معي.. فهمس لي: بل اسمح لي أنا أن أشكرك فهذه الجولة أعادت إليّ ذاكرة بيت لحم بالكامل في المناطق التي جلناها، وأنتظرك لنكمل زيارة الأماكن التي لم نزرها بعد.. فودعته بمحبة وشكر وامتنان متجها لرام الله العشق والجمال.
وها أنا أصحو من نومي وأجول دروب رام الله متنشقا عبق الياسمين، أستعيد ذاكرة الزيارة لبيت لحم، واعداً نفسي بزيارة أخرى في أول فرصة تتاح لي، فما زال الكثير في بيت لحم لم توثقه عدستي وقلمي، فأعود بعد الجولة الصباحية لصومعتي أحتسي قهوتي برفقة روح طيفي التي لا تفارقني، حالما بزيارة أخرى لبيت لحم ورباها وبلداتها، وأستمع لشدو فيروز تشدو: (ردني إلى بلادي مع نسائم الغوادي.. لم تزل على وفاء ما سوى الوفاء زادي، حبني هنا حب الحب مالئاً فؤادي شلح زنبق أنا إكسرني على ثرى بلادي)..
فأهمس لبيت لحم: لا بد أن ألتقيك من جديد، وأهمس لوطني ولرام الله ولكم جميعاً: صباحكم أجمل..
(رام الله 12/3/2013)
________
*كاتب من فلسطين