في عمر الرابعة والخمسين، رحل قبل أيام المخرج الروسي ألكسي بالابانوف وذلك صبيحة اليوم التالي من عرض فيلمه ‘أنا أيضا أريد’ في مهرجان عموم روسيا السينمائي الذي يقام في مدينة سانت بطرسبورغ.
من أهم أفلامه فيلم ‘الاخ’ وفيلم ‘الشحنة 200′. لفت أسلوبه المتقشف في صناعة الفيلم وحلوله الإخراجية المبتكرة انتباه صناع الأفلام والمعاهد السينمائية الأوروبية.
لا تحتاج أفلامه ميزانية ضخمة، فهو غالبا ما يصور مشاهد أفلامه مرة واحدة فقط، يعتمد بعدها على تقطيع المونتاج وإدخال الموسيقى التي بإمكانها تذويب هفوات التصوير أو صهرها في لحمة الفيلم. كما أن أفلامه لا تبالي بالوجوه المعروفة ومعظم ممثليه مغمورون إن لم نقل إنهم يقفون للمرة الأولى أمام الكاميرا.
فمثلا ولكي يختار ممثلا لدور الشرير ما عليه إلا أن يأتي بشخص من زمرة الأشرار وأصحاب السوابق ويسلمه الدور … إلخ، وبهذا لن تتحمل ميزانية الفيلم شيء يذكر، كما أن المخرج سيرسم لوحته الفنية بحرية قد لا تتأتى للمخرج الذي يتعامل مع النجوم ويضطر لمواجهة اشعتهم.
في الفيلم الذي مات بعده ألكسي بالابانوف: ‘أنا أيضا أريد’ تتوازى خيوط الواقع بأشعة الحلم والتوق للإنفصال عن الحاضر والتخلص من أغلال الزمن. الشخصيات هي: مجرم مع والده، مجرم ثان، موسيقي، عاهرة، وهناك أخيرا العراف الذي تستهدي به الشخصيات لمعرفة مصائرها. الجميع يقصدون مدينة السعادة التي تمتلك بابا للدخول ولا يوجد مثله للخروج.
فإما أن تغمرك فيها السعادة وتمنح تأشيرة السفر الأبدي إلى عالمها العلوي (في الفيلم يتحول سعداء الحظ من الشخصيات إلى سحابة صاعدة) أو تموت في الضفاف الصقيعية للمدينة.
وهكذا وبعد اجتيازهم بوابة المدينة، تتقاسم الشخصيات المصير المحتوم: منهم من يموت ومنهم يسعد ويصعد. ولا يأتي ذاك المصير الذي تمت عنونته بالسعادة أو الموت، لا يأتي جزافا أو منفصلا عن ماضي الشخصية وإنما يأتي بطبيعتها ومشدودا بأحافيرها النفسية.
ولكن ما هذا الذي أراده بالابانوف أيضا؟! أهو السعادة أم الموت؟ في المشهد الأخير من الفيلم الذي مات بعد عرضه المخرج الروسي ألكسي بالابانوف، يظهر بالابانوف بنفسه جالسا في ضفة باردة.
يقترب منه المجرم الذي لا يعرف بعد أي مصير ينتظره. يسأله عن نفسه. يجيب: أنا ألكسي بالابانوف، مخرج. وماذا تفعل هنا؟ يقول: أنا رجل سيئ فقد قتلت الكثيرين في أفلامي وها أنا أنتظر صحيفة القدر. وفي نهاية الفيلم يموت المجرم وإلى جانبه يموت ألكسي بالابانوف الذي سيموت مرة أخرى، أخيرة وقدرية في صبيحة اليوم التالي من عرض الفيلم… ذلك المخرج الذي لا يصور المشاهد مرتين.
– القدس العربي