أمير تاج السر: كتاباتي إيحاء لا مباشرة


عندما يهبط الليل ونجلس على حافة نهر الزمن كصيادي سمك خائبين، نلجأ للأدب، وأكثر ما نحتاجه الآن « كعرب» وكحضارة تتعرض لشتى التحديات، الأدب الحقيقي والأدباء الكبار هم الكفيلون بإطلاق ما يشبه الاجابات المعقولة لأسئلتنا المطروحة بمرارة..
والروائي السوداني أحد اهم الاسماء الأدبية التي عملت بتوق في عالم الرواية وقدم لنا السودان مرة أخرى عبر الأدب بعد توقف النص السوداني عند «الطيب صالح» ومع روايته الجديدة التي تحمل عنوانا بمثابة رقم «366» يمنحنا تاج السر المزيد عن عالمه الأدبي الذي نقلب صفحاته دون أن يموت الظمأ إلى جديده.

 قال سنغور مرة: ( ليس كل رؤساء افريقيا مثل عيدي امين.. فعندما يموت شيخ قبيلة هنا يكون ذلك بمثابة احتراق مكتبة..) أمير تاج السر كتب نصوصا مستلهمة من شعب يحمل موروثا تسميه العجرفة الغربية «بدائي»، إلى اي مدى تأثر نصك بماضي السودان على نحو خاص؟ وماضي افريقيا بشكل عام؟

} نعم، في الحقيقة أنا بدأت كاتبا محليا، واستمررت في الكتابة بهذا النهج بمعنى أن كل ما كتبته حتى الآن مختص ببلادي، ماضيها وحاضرها. فكما تعرفين، أنا من بلاد غنية بالتنوع الثقافي، فهي بلاد عربية، وفي نفس الوقت بلاد أفريقية، لدينا موروث يخص العرب وموروث يخص الأفارقة، وأيضا لدينا موروث خاص بنا كسودانيين، ولو تابعت الكتابة السودانية في أي عهد من عهودها تجدين هذا المزيج وهذا التنوع موجودا، رواياتنا منذ أبوبكر خالد، وقصائدنا في مدرسة الغابة والصحراء، وشعراء مثل محمد عبد الحي والنور عثمان أبكر، ومحمد المكي إبراهيم، وحتى اليوم في إبداعات الشباب السودانيين. أنا مضيت في الدرب واستلهمت الماضي في روايات مثل مهر الصياح وتوترات القبطي ورعشات الجنوب، والحاضر في روايات مثل العطر الفرنسي وتعاطف وصائد اليرقات، وفي معظم هذه الكتابات خاصة المستوحاة من الماضي، تجدين الاحتفاء بالموروث الخاص وبالأسطورة، وبالجو الأفريقي الممزوج بالعروبة. وأيضا حين تقارن كتاباتي بالعرب، فهي عربية وبالأفارقة، فهي أفريقية. في رواية مهر الصياح، توجد سلطنة أفريقية في كل بنائها، لكنها سلطنة يمكن أن تكون عربية أيضا، عموما، هذه الطريقة من الكتابة، لم يتم استيعابها جيدا حتى الآن، وكثير من القراء الذين أمر على مواقعهم، يتحدثون عن الغرابة فيها، لكنها نهج ورثته، وأستمر فيه.

اجتذاب قراء

 بمناسبة الجو العام السائد عربيا: «الثورات» ما نلمسه في كتابات امير تاج السر الروح الثورية الحقيقية التي تستجيب لتمجيد «الأنا» التي تتمرد على التكتل، ثمة تمرد أحيانا خفي وأحيانا معلن، على السائد عربيا من النصوص يتضح لديك في ما تكتبه، إلى أي حد تتفق مع الرأي القائل «الثوريون بالمعنى الفني للكلمة هم قادة الحركات الكبرى والمبدعون الكبار الذين قاموا حقا بزعزعة الصيغ القديمة»؟
} ربما صحيح ما تقولين. أنا أؤمن بالبصمة الإبداعية كثيرا، وأرى أن الكاتب يجب أن يخرج على الناس ببصمته، هذا قد يكون من أول نص كتبه مثل تشينوا أشيبي، في الأشياء تتداعى، وماركيز في رواياته الأولى مثل في ساعة نحس، وربما بعد عديد من التجارب. أنا كتبت محاولات كثيرة قبل روايتي مهر الصياح التي أظهرت أسلوبي، محاولات سيطر عليها الشعر الذي قدمت منه، روايات مثل نار الزغاريد، وعواء المهاجر، ولم تنتشر إلا في حدود ضيقة، بينما من بعد مهر الصياح، أصبح من الممكن العثور على قراء، وهذا ما حدث. لا أدعي أنها ثورة في الكتابة، أو محاولة لكسر النمط السائد، ولكنه اجتهاد شخصي مني ككاتب. لقد أمضيت زمنا طويلا في القراءة والكتابة، وأظنني راض عما حققته حتى الآن. ما يحزنني حقا هو أن معظم الذين يدخلون سكة الكتابة الآن، يدخلونها بلا بصمة، ولو ألقينا نظرة على النتاج الروائي، نجده في معظمه تكرارا لما قبله، وقليل من يكسرون النمط. المثقف والمبدع خصوصا في رأيي، ليس مطالبا بقيادة ثورات كبرى، يغير فيها نمط الحياة، بقدر حاجته لوضع بصماته الخاصة التي تميزه في زمن كثر فيه المزاح الكتابي، ولا أنسى أن أقول، إن القارئ في الأغلب، يظل ممسكا بالصيغ القديمة للكتابة، ولا يتفاعل بدرجة كبيرة مع ما هو غريب عليه، وما لم تتأطر الكتابة الجديدة، لن نحصل على نتائج كبيرة. بالنسبة لي شخصيا بدأت في اجتذاب قراء إلى طريقتي، لكن حتى الآن، ما زلت أحاول.
÷ لابد من التسليم انه غدا هنالك أدب يُكتب ابتغاء لجائزة ما أو للتقرب من جمهور بعينه، فهل حدث أنك كتبت احد نصوصك لسبب يشبه ذلك؟
} أبدا على الإطلاق، أنا أكتب نصوصي بهدوء وبعيدا عن صخب الجوائز، أكتب الفكرة التي أراها جديدة وغير مكررة، وأكتب بأسلوبي الخاص، وأحيانا أتقدم للجوائز كما حدث مع جائزة البوكر، وفي الغالب لن أحصل على أي جائزة. هناك عدة أسباب، منها أن محكمي الجوائز في أغلبهم يملكون ما يسمى بالتذوق المستقر للنصوص، وقليل منهم من يتذوق كتابة جديدة أو غريبة عليه، ومنها ما أقوله صراحة، هو نفينا نحن كعرب من الأطراف من أي زخم كبير أو جائزة كبرى، المهم أن نكتب، هذا وحده يكفي، وقد كتبت مرارا في مقالاتي عن موضوع الجوائز هذا، وأعتبره موضوعا بلا حل، وربما لو كنت محكما في بعض هذه الجوائز، لكان لي رأي خاص أيضا، يختلف عن آراء الآخرين، وقد حكمت مرة في جائزة قصصية واخترت النصوص التي رأيت أنها أقرب إلى أن تكون نصوصا جديدة من ناحية الفكرة واللغة.
÷ الأدب ينخرط في لعبة السياسة وأحيانا كثيرة يكون أداة من أدواتها، هل المبدع الحقيقي يسمح لنصه أن يكون مطية للسياسة أو لحالة راهنة مؤقتة وما مدى رسوخ هكذا نصوص؟
} السياسة جزء من حيل الحياة، تماما مثل أي حيلة أخرى، وبالتالي تدخل في حيل الفن والكتابة، ومعظم النصوص الروائية خاصة، مرتبطة بالسياسة بطريقة أو بأخرى، أنت حين تكتب عن الفقر والجوع والمرض، تكتب عن السياسة التي أفقرت وأجاعت، حين تكتب عن السجن، تكتب عن السياسة، وحين تستوحي من التاريخ، تسوحي أحداثا بعضها سياسي. لكن كيف يكتب كل هذا؟ في رأيي أن النصوص يجب أن تكون موحية وليست مباشرة، بمعنى أن لا يكتب الحدث بطريقة خطابية، ولا ترصف الطرق التي تبتعد عن حيل الكتابة. الفن عميق ومتطور ويمكن جدا إيصال الفكرة المباشرة، بطريقة فنية. أما النصوص التي ترتدي عقيدة ما، أو تتحدث بلسان الساسة والخطباء المنبريين، فلا أعتقد أنها سترسخ كثيرا في الأذهان. تجربة كتابة السجون عند صنع الله إبراهيم مثلا، تجربة سياسية، كتبت بفن، لذلك رسخت في الأذهان، بينا لدى آخرون، ظلت تجربة خامدة لأنها كتبت بلا فن. أيضا هناك فرق بين كتابة الرواية، وكتابة السيرة، في كتابة السيرة، كل شيء يمكن تقبله، لأن الكاتب هنا يضيء حقائق، ولا يخترع فنا، بعكس الرواية التي يجب أن تحلق بأجنحة الفن.
÷ غدا سؤالا تقليديا حول النص الحداثي الذي يراه البعض ذلك النص غير المفهوم أو النص المغرق بالذاتية وغالبا ما يتبنى وجهة نظر مناوئة للتراث والبعض يراها اسلوبا وآخرون يرونها مضمونا، كيف يراها امير تاج السر وكيف عبر عنها بنصوصه؟
} النص الحداثي في رأيي، ليس بالضرورة نصا مغرقا في الغموض بحيث يستعصى على الفهم، ولا أراه مجرد اندياحات شعرية بلا مضمون مهم، لكن يجب أن يكون مفهوما وفي نفس الوقت مختلفا عن نصوص أخرى لآخرين، وحتى لدى الكاتب نفسه. حيث ينبغي أن يكتب في كل مرة نصا يختلف عما كتبه سابقا. مفهوم الغموض والتعالي الفني، لا يوجد عندي، وما دام الأمر حكاية تروى وتتطلع لأن يقرأها أحد، فيجب أن تمتلك أركان الحكاية، فقط الأسلوب أوالبصمة التي ذكرتها ما يجب أن يجعل النص حداثيا وراقيا. بالنسبة لي لا أعرف فكما قلت لك، أنا أكتب بهدوء حين أجد ما أكتبه أو ما يضغطني لأكتبه، وحين يكون المزاج راقيا بلا أعباء أخرى، تعوق الانفراد بنصي

الرواية شهادة كبرى

÷ وهنا يأتي دور سؤال تقليدي آخر ما هو الالتزام برأيك؟
} لم أفهم أي نوع من الالتزام تعنين؟، لكن لو كنت تعنين التزام المبدع بمشروعه، أقول لك، إن المبدع ينبغي أن لا يكون عشوائيا في كتابته، فما دام صاحب مشروع، فهو ينضبط في مشروعه ويخلص له، مهما كانت النتائج، أنا أفعل ذلك، ومنذ سنوات لم أتوقف عن صياغة مشروعي برغم كل المحبطات، والآثار السلبية، والضغوط المختلفة، أحاول دائما أن أكون مخلصا، قيل بإنني أكتب كثيرا، لكن لم يقل أحد إنني كررت نصا في نص آخر، وهكذا.
÷ عندما تقرر الرقابات مصير النصوص التي تنشر وهذا أمر سائد في معظم الدول العربية فإن النتيجة تكون مميتة والبرهان ابتذال عام بالفن الذي نراه على شاشاتنا العربية، وعلى صعيد الأدب الأمر أكثر قسوة، الى أي حد حسبت حسابا للرقيب بكل أشكاله السياسي او الاجتماعي او الديني؟
} أنا لدي رقيب داخلي، يجعلني أفلتر كتابتي وأبعدها عن كل ما يسيء، ولا أقبل النصوص التي تتجرأ أو تستهزئ بعادات المجتمع الموروثة، أو بالدين، وأعتبر الدين منارة لي في كل حياتي وألتزم بعباداتي كاملة والحمد لله، ولذلك لم يمنع لي نص في أي بلد قط. أيضا كثرت مسألة كتابة الألفاظ غير الجيدة في النصوص الجديدة، باعتبارها حداثة. هذا لا أكتبه ولا أحبه، وحين أقرأ نصا محتشدا بتلك العبارات، ويبدو لي جيدا في ما عدا ذلك، أفلتره داخليا وأستمتع بما تبقى منه. أما السياسة فكما ذكرت لك سابقا، هذا يعتمد على الأسلوب الذي كتب به النص، وإن كان راقيا، أما مجرد سباب مباشر، يحرض الرقيب على منعه. المسألة ليست شائكة جدا، وكل كاتب من المفترض أن يخترع رقيبا داخليا، يجهض نشوته بالكتابة الصادمة، متى ما اشتعلت
÷ نجد أسبابا لا تحصى لمعاناة المبدع أحيانا لأنهم لا يفهمونه، أو لانهم لا يفهمونه على نحو صحيح، واحيانا اخرى ان نجح، لان نجاحه يثير غضب التافهين والحاقدين وفي كل الاحوال فإن ألمه يكون شديدا.
} هذا شيء طبيعي وموجود ولن يتغير، معاناة المبدع من نواح كثيرة،، فنحن لا نملك وظيفة اسمها مبدع، يعيش منها لكاتب أو الشاعر، وأيضا قصور الفهم قد يؤدي إلى كوارث، وهناك دائما متربصون بكاتب ما لمواقفه غير الإبداعية، وبالتالي يحاولون أن يحرضوا عليه الأمم. أما مسألة الحقد ومعاداة الناجحين، فهي موجودة، وستظل موجودة، دائما هناك من لا يعجبه العجب. لا أعتقد أن هذا مهم بقدر أهمية الاستمرارية في الكتابة.
÷ ان الروايات الكبرى هي تلك التي تغير الكاتب حين يبدعها والقارئ حين يقرؤها، أسألك عن نصوص قرأتها لغيرك وغيرتك ؟
} ربما في بداياتي، توجد نصوص ألهبتني بالفعل وجعلتني أتمزق لأصنع بصمتي، نصوص مثل طرف من خبر الاخرة، وأيام الإنسان السبعة لصديقي الراحل عبد الحكيم قاسم، نص مثل الحب في زمن الكوليرا لماركيز، والأشياء تتداعى لتشينوا تشيبي.
÷ ارنستو ساباتو قال ذات مرة « ان ابطالنا كائنات مسكينة نبدعها ونحبها ونفتقدها في هذه المسيرة العابرة نحو الموت»
} هذا صحيح، أنا من الذين أتحسر على مصائر شخوصي الذين ابتدعتهم، وهناك شخصيات في روايات لي كنت أدمع وأنا أضع مصائرهم، مثل الرزينة نظر في مهر الصياح، والملكة نديمة مشغول في توترات القبطي، وعلي جرجار في العطر الفرنسي، لكن لم يكن بالإمكان تغيير تلك المصائر لأن الكتابة اقتضت ذلك، وهناك أحداث تالية لن تحدث إلا بهذه المصائر. أعتقد أن القراء أيضا يتفاعلون، وهناك من يرسلون للكاتب يسألونه، لماذا فعلت ذلك بهذه الشخصية؟ الآن روايتي الأخيرة، تطرح فيها مثل تلك الأسئلة.
÷ ثمة شهادات كثيرة على العصر كالصحافة والفن لكن الكثيرين يرون أن الرواية شهادة اكمل واشمل، هل ترى ذلك؟
} نعم أرى ذلك. الرواية عالم شاسع وممتد، وأكرر أنها تشمل كل أنواع الفن، فمن خلالها يمكن كتابة الحكاية والسيناريو والمسرح وحتى الرسم والنحت. إذن هي الشهادة الكبرى.
÷ يتساءل «لوركا» عن الشعر من مقدمة ديوانه: قصائد أولى- قائلا:« ماذا بإمكاني أن أقول عن الشعر؟»، يتساءل عن الغيوم وعن السماء، ويجيب نفسه قائلا: «رؤيتها، رؤيتها.. ولا شيء آخر». في روايتك الاخيرة 366 اللغة الشعرية حاضرة، ماذا تقول في ذلك؟
} نعم، اللغة الشعرية حاضرة، لكنها لم تأكل الحكاية المؤسفة للمرحوم. لقد اقتضت حكايتها نفسها أن أكتبها بهذه اللغة المكثفة الموحية، ولا أعمد إلى تفاصيل أخرى غير ضرورية، وأيضا لدي رواية اسمها اشتهاء، وهي إعادة كتابة لرواية منشورة اسمها صيد الحضرمية، وستصدر قريبا، توجد هذه اللغة المكثفة. لأن الأمر يقتضي ذلك.
÷ بعد ترجمة أعمالك للغات أخرى، هل وجدت تفعلا لدى القارئ الغربي؟
} نعم، لقد ترجمت لي عدة أعمال ووجدت صدى طيبا، وأجدها تناقش في منتديات القراءة، وأيضا تصلني رسائل من قراء لها هناك، مما يدل على أن الأدب العربي من الممكن أن يتخطى عزلته لو زاد الاهتمام به، ونشأت مؤسسات ترعى إيصاله للآخر.

* روائية وإعلامية سورية 
( السفير )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *