حقيبة أبي/ اورهان باموك


ترجمة: عبد الغني بو معزة

[ 1 ]

.. سنتان قبل وفاته سلّمني أبي حقيبة صغيرة تحوي بداخلها كتاباته وهي عبارة عن كرّاسات خطّ عليها ما تيسّر له من خواطر و أشعار،كعادته كان ساخرا وحازما وهو يطلب مني أن أقرأها قبله، يعني قبل موته:القي نظرة عليها..”،ثمّ أضاف بإصرار أو هذا ما بدا لي:ربّما تجد ما يصلح للطباعة، تستطيع أن تختار “،كنا في مكتبي ومن حولنا الكتب،كان يتجوّل في أرجاء غرفتي ملقيا النّظر من حوله و كأنّي به يبحث عن مكان ما للتخلّص من حمل ثقيل ومزعج ولا يعرف كيف،أخيرا،وضعها بهدوء في زاوية دون أن يثير انتباهي المتيقظ،بعد انتهاء اللّحظة المثيرة للخجل والغرابة لكنّها لحظة لا تنسى،عاد كلّ واحد منا لدوره المعتاد،دور الأب والابن،لشخصياتنا الكوميديّة العفويّة،تحدثنا في مواضيع معظمها عاديّة،عن الحياة،مشاكل تركيا السّياسيّة،عن مشاريعنا التّي يصعب عدّها و إن كان بمقدورنا انجازها،كلّما دخلت المكتب و لأيّام كنت أدور حول الحقيبة دون أن المسها،حتى بعد مغادرته البيت رغم إنني كنت معتادا على الحقيبة الصّغيرة منذ إن كنت صغيرا،كانت حقيبة أسفاره القصيرة وفي مرّات أخرى كان ينقل فيها وثائقه الخاصة بالعمل،أتذكّر وأنا طفل إنني فتحتها وبعثرت ما بداخلها،استطيع أن أقول بصراحة إنني فتشت محتوياتها،اقصد محتويات ملفات أبي، كانت تفوح منها رائحة لذيذة لعطر من تلك العطور الفرنسيّة التّي كان يستعملها وبالطبع رائحة بلدان بعيدة وغريبة كان قد زارها،أدرك أنها كانت تعني لي الشّيء الكثير،تذكّرني بما هو عائلي وحميم،بماضيّ أنا،بذكرياتي،خاصة منها الطفوليّة،رغم هذا لم اقدر على فتحها،لماذا؟،ربّما بسبب وزن غرابيتها الثقيل!، سأتحدّث عن معنى الوزن،أنّه جوهر عمل الإنسان الذّي يحبس من اجله نفسه في غرفة،يجلس أمام طاولة الكتابة الموضوعة في احد زوايا هذه الغرفة، يتواصل بالقلم والأوراق،بمعنى آخر أعني الأدب،لم اقدر على لمسها أو فتحها من فرط جبني وخوفي،لكنني كنت على دراية بما تحتويه كرّاساته التّي بداخلها،رايته من قبل يكتب عليها،يدوّن ملاحظات عابرة أو يسجّل معلومات تخطر على باله،كنت شاهدا على هذا،ليست المرّة الأولى التّي اشعر فيها بوزن محتوياتها،كان لأبي مكتبة كبيرة،في شبابه وبالضّبط في أربعينيات القرن الماضي كان يرغب بكلّ ما أوتي أن يكون شاعرا،كان قد ترجم للتّركيّة الشّاعر بول فاليري،لكنّه في قرارة نفسه لم يكن لديه قناعة كبيرة لتكريس حياته للشّعر في خضم صعوبات الحياة في بلد فقير،حيث قرّاء الشّعر يعدّون على أصابع اليدّ،جدّي كان مقاولا غنيّا،لذا كانت طفولة أبي سهلة،كانت هذه احد الأسباب التّي جعلته يفكّر كثيرا قبل أن يتخذ قرار بهذا الحجم،أظنّه كان يخشى على نفسه من حياة الضّنك،كان يحبّ الحياة السّهلة والمريحة ومغرم بمباهجها وكنت افهمه،ما كان يمسكني عن فتحها ربّما هو خوفي من إنني لن أحبّ ما كتبه،من المؤكّد انه كان يدرك هذا ..
[ 2 ]
سبّب لي موقفي هذا الكثير من الألم،أنا الذّي اكتب منذ خمسة وعشرين سنة ويصدر مني هذا السّلوك المخجل،لم أرد أن أكون صارما معه بحيث أجدني ملتزما إلى أقصى حدّ مع الأدب،خوفي الحقيقي أو ما كان يفزعني هو إمكانيّة أن يكون كاتبا حقيقيّا دون أن ادري أو أن اعترف بهذا،اعترف بهذا هو السّبب الرّئيس الذّي كان يمنعني من فتح الحقيبة،والأكثر غرابة إنني لم أكن صريحا بما فيه كفاية مع نفسي،لأنه لو خرج منها عمل أدبي كبير كان عليّ أن اعلم بوجود رجل آخر،مختلف تمام الاختلاف عن أبي،كان شيئا مربكا،لا يصدّق،في سنّي هذه النّاضجة كنت أودّ أن يكون أبي هو أبي و ليس كاتبا أو ما شابه ذلك،بالنسبة لي أن تكون كاتبا هو اكتشاف بالصّبر والفضول وعبر السّنوات الإنسان الآخر الذّي بداخلنا،انه عالم يجعل من حياتنا الأخرى أكثر تكتّما وسريّة،تستحضر لدي الكتابة في المقام الأوّل ليس الرّوايات ولا الشّعر ولا التّرجمة،بل الإنسان المجهول الذّي يجلس هناك،في احد أمكنة الدّاخل المجهولة و قد وضع نفسه في فضاء العزلة الآمنة،فقط وحيدا مع الحروف،يضع حجر أساس عالم جديد،هذا الإنسان أو المرأة يمكنه استعمال آلة كتابة أو حاسوب أو مثلي أنا يقضي ثلاثين سنة من حياته يكتب بقلم على ورق العذريّة والخجل،في خضم ممارسة صنعة الكتابة يمكنه التّدخين،شرب القهوة أو الشّاي ومن حين إلى حين يلقي نظرة من خلف النّافذة على الخارج،يشاهد الأطفال يلهون ويلعبون في الشّارع،هذا إن كان لديه قليل من الحظّ،على الأشجار أو على جدار يمكنه كتابة أشعار،مسرحيات أو مثلي أنا يكتب روايات،كلّ هذه الاختلافات ثانويّة بالمقارنة مع فعل الجّلوس أمام الطاولة و الغوص في الباطن،اكتشاف الزّوايا المجهولة من الذّات،أن تكتب يعني انك تترجم إلى كلمات هذه النظرة الآتيّة من الأعماق،الانتقال إلى الدّاخل خاصتنا و التّشبّع بسعادة اكتشاف بصبر وعناد عالم جديد،تدريجيّا وأنا جالس أمام طاولتي كنت أضيف كلمة إلى كلمة على أوراق بيضاء،مع مرور الأيّام،الشّهور والسّنوات أجدني ابني هذا العالم الجّديد،الخيالي والسّاحر،وكأننا نبني جسر أو قوس نصر،الكلمات بالنّسبة لنا الكتّاب هي حجارة نبني بها أو نبنى منها ، عن طريق معالجاتها،مقارنتها بالأخرى حسب وضعيتها ومكانها وطريقة وضعها،وفي بعض الأحيان يتمّ قياسها عن بعد ومرّات أخرى بعكس ما نقوم به نداعبها بأطراف الأصابع والقلم ثمّ نقوم بوضعها فوق بعضها بعناية وتركيز مبالغ فيهما،كلّ هذا من اجل بناء السّنوات الطويلة دون أن نفقد الصّبر و الأمل،انه الإصرار والعناد اللّذين في العادة أكرّرهما لأنّهما لازمة النّجاح والتألّق في صنعة البناء والكتابة،بالنسبة لي سرّ مهنة الكاتب لا تتمثل في ذلك الإلهام الذّي يكون مصدره المجهول بل في الإيمان والقناعة المطلقة والصّبر الشّجاع،استذكر في هذا الموقف مقولة تركيّة جميلة”حفر بئر بإبرة”،أحبّ وافهم صبر فرهاد الذّي حسب الأسطورة عبر الجّبال من اجل عيون شيرين الجّميلة التّي كان مغرما بها إلى حدّ الوله المجنون،في روايتي اسمي احمر ، من كثرة رسمهم لنفس الحصان في منمنماتهم ولسنوات أصبح باستطاعة الرّسامون الفرس رسم نفس الحصان وبعيون مغلقة،بالطبع وأنا أتحدّث عن هذا اقصد أيضا و بطريقة غير مباشرة صنعة الكتابة ، أتحدّث عن حياتي الخاصة ..
[ 3 ]
يبدو لي انه إذا أردنا أن نسرد حياتنا كما هي أيضا حكاية الآخرين فمن الأفضل أن ننهل من تجاربنا الكثيرة وسيمنحنا هذا بالطبع أجمل شيء يرغب فيه الكاتب إلا وهو موهبة الحكي،الكاتب ذاته وبتفاؤل من واجبه أن يهب سنواته الفانيّة لفنّه وصنعة الكتابة التّي حسب اعتقادي لا يضاهيها أيّ شيء من حيث الجّمال والعطاء والتّضحيات،الإلهام أو صوت القلب الذّي يسكننا عن دون غيرنا حسّاس لثقتنا به،حسّاس كذلك لهذا التّفاؤل،هذا التّفاؤل الذّي هو هواية الحالمين،بالطبع العالم يدرك أن صانعي الجّمال شاعريون ومثاليون،وكلّما شعر بعزلته كلّما زاد يقينه بقيمة جهوده وأحلامه وقناعة ثابتة بما يكتبه،اقصد عندما يدرك بان تاريخ الآخرين هو في الحقيقة تاريخه هو،بان الإلهام أو صوت القلب يقدم ليهبه الحكايات،الصّور وأحلام العالم الذّي يعيشه وعالم آخر يكافح لتشييده،الإحساس الأكثر اضطرابا في مهنة الكتابة والتّي أعطيتها كلّ حياتي هي فكرة غريبة لكنّها أيضا فكرة جديرة بالطرح،انه في بعض الأحيان أفكّر كثيرا في تلك الجّمل والصّفحات التّي غمرتني سعادة فأقول انها من وحي قوّة خارجيّة اجهل ماهيتها،أعود لحكايتي مع حقيبة أبي، مازال هاجس فتحها يؤرقني،الخوف من فتحها وقراءة محتوى الكرّاسات وسبب هذا الخوف بصيغة أخرى علمي بأنه قد اكتشف انه لن يتعرّض لما تعرّضت إليه من صعوبات،كان بعكسي يكثر من الصّداقات ويبغض الوحدة وما شابهها،يفضّل الغرف الغاضة بالضّيوف،السّهرات،جلسات الأصدقاء، مزاحهم ونكاتهم،لكن فيما بعد أضفت إلى هذه الأسباب سببا آخر إلا و هو الصّبر،الزّهد،كلّ هذه التّصاميم التّي شيدتها من وحي تفكيري وتخميناتي قد لا تكون أكثر من أحكام مسبّقة،مرتبطة بتجربتي الشّخصيّة وحياتي ككاتب،أدرك انه لا يعوزنا هذه الطينة من الكتّاب الرّائعين والذّين يبدعون في خضم حياة أقل ما يقال عنها انها شبيهة بملعب كرة قدم،ملتهبة بحماسة الفوضى والجّنون البشري وفي واقع اجتماعي أو عائلي سعيد،زيادة على هذا و هذا ما يؤلمني انه تخلى عنا ونحن صغار ليهرب من مسئولية الحياة العائليّة،هل عرفتم لما ينتابني هذا الشّعور كلّما فكرت في فتحها؟،أدرك عن قناعة انه يوجد بداخلها تلك الكرّاسات التّي كان في ما مضى يكتب عليها خواطره وأفكاره وربّما ذكرياته،لأنّه بعد فترة من تخلصّه منها في مكتبي،أقول بعد سنوات من حادثة الحقيبة بدا في الحديث عن تلك الفترة الغير العاديّة من حياته،في طفولتنا أيضا وهذا ما كان بإمكاني تذكره،كان يتحدّث و باقتضاب عنها،لكن دون أن يتطرّق عن حالات ضعفه وهشاشاته،ولا حتّى عن رغبته أن يكون شاعرا،ولا عن حالات القلق المرتبطة بالحياة التّي قضى جزء منها في الفنادق الفرنسيّة دون أن يدري ماذا يفعل فيها وما هو السّبب المقنع الذّي جعله يتخلى عن حياته السّابقة،كان يحكي لي انه كان يشاهد أو هذا ما يخيّل له سارتر يتمشّى على أرصفة باريس،يتحدّث عن الكتب التّي قراها والأفلام التّي شاهدها بشغف كبير وكأنّه شخص يحمل أخبارا مهمّة،بالتأكيد لا استطع التّخفي أو إنكار ما يخبّأه لي قدري ككاتب يرى والده لا يملّ من الحديث عن الكتّاب الكبار أكثر من حديثه عن الباشاوات أو رجال الدّين و الذّين تزخر بهم ثقافة بلادي وشعبي،مثلي أنا،كان يرغب أن يكون بمفرده في غرفته ليكون برفقة حشد من الأحلام،ممدّد على الصّوفا المقابلة لمكتبته،يضع بجانبه مجلة أو كتابا ويغوص في لحظات تفكير عميقة،تظهر على وجهه عبارة جديدة،مختلفة عن سابقتها من تلك العبارات المتعوّد على سماعها أو استعمالها،في وسط جعجعة التهكّمات والنّكات السّاخرة والشّجارات والاغاضة بينما نظرته تحنو للحظة الدّاخل وسكينة الشّعور ..
[ 4 ]استنتجت منذ طفولتي وفي بدايات سنوات شبابي بان أبي كان رجلا قلقا،الآن فقط عرفت وبعد سنوات بان هذا القلق يجعل من المرء كاتبا،لكي تصبح كاتبا يجب أن يكون لديك قبل الصّبر وطعم الحرمان،حاسة الهروب من النّاس،المجتمع،الحياة العاديّة،الأشياء اليوميّة المتقاسمة بين الآخرين و الانزواء في غرفة،نحن الكتّاب نحتاج للصّبر والأمل للبحث في دواخلنا عن أسس عالم نحاول تشييده يوميّا،لكن الحاجة للانزواء في غرفة،اقصد غرفة مليئة بالكتب ستكون دافع حقيقيّ للكتابة،الشّخصيّة الأدبيّة التّي سجّلت بدايات الأدب الحديث وهي أيضا المثال الكبير للكاتب الحرّ والقارئ المتحرّر من القيود والأحكام،الذّي شيّد عالمه بالحوار مع الكتب الأخرى،اقصد بالطبع[Montaigne ]،هو الكاتب المفضّل لدى أبي،يحبّ قراءته كثيرا وكان يشجّعنا على قراءة كتبه،لذا أفضّل وأريد أن اعتبر من المنتمين لهذا التّقليد،أن أقارن بهذا النّوع من الكتّاب الكبار أيّ كان انتماءهم شرقا أو غربا،بالنّسبة لي الإنسان المنزوي في مكتبته باعتبارها المكان المناسب الذّي يذوب فيه مع الأدب الحقيقي،ورغم أن عزلتنا في هذه الغرفة التّي نسجن فيها أنفسنا ليست بذلك الكبر الذّي نتخيّله إلا أننا محاصرون ويا للمتعة بالكلمات،بحكايات الآخرين وكتبهم،وكلّ ما نسمّيه بالتقاليد الأدبيّة،أظن أن الأدب هي الهبة الأكثر ثراء و التّي تسمح للإنسانيّة اكتشاف ذاتها وفهمها،تصبح المجتمعات الإنسانيّة،القبائل والأمم ذكيّة أو ترتقي بنفسها إذا أخذت بعين الاعتبار كتابات كتّابها و أعادت الاعتبار لأدبها واستلهمت الحكمة من مثقفيها،وكما نعرف جميعا فان محارق الكتب واضطهاد الكتاب يبشّر الأمم بأزمنة ظلاميّة وسنوات عجاف من التّخلّف والجّهالة،يجب أن يعرف الجّميع بان الأدب أو الثقافة عموما ليست مسالة وطنيّة،فالكاتب الذّي يجلس في غرفته مع حبيباته من الكتب و المؤلّفات ويسافر عبرها في رحلة داخليّة إلى عوالم الصّمت والحكمة البيضاء سيكتشف عبر السّنوات نظريّة بسيطة وأساسيّة:الأدب هو فن الحديث عن تاريخنا كما هو تاريخ الآخرين وان تاريخ هؤلاء هو أيضا تاريخنا،للوصول إلى هذا الهدف،لنبدأ أولا بقراءة الحكايات وكتب الآخرين،كان لأبي مكتبة كبيرة تضمّ ما يقارب ألف وخمسمائة كتاب والتّي أرى انها تشبع نهم أيّ كاتب وعندما كان عمري اثنان وعشرون سنة لم اقرأ كلّ هذه الكتب ولا ادّعي هذا لكن بالمقابل كنت اعرفها كلّها وكان بإمكاني ذكر معظم عناوينها وكنت اعرف أيّها أكثر أهميّة وأيّها كانت قراءتها متعة وأخرى بسيطة وخفيفة بالمعنى الأدبي ..
[ 5 ]
في بعض الأحيان أجدني أتأمّل من بعيد هذه المكتبة،متخيّلا إنني في يوم ما سيكون لي منزل ومكتبة مثلها وربّما تكون أفضل،سأشيّد عالما خاصا بي من الكتب،عندما انظر بعيدا تبدو لي مكتبة أبي كأنها صورة مصغرة للكون،في الحقيقة هي أشبه بعالم صغير نشاهده من زاوية ضيّقة،مثلا من اسطنبول و محتوى المكتبة يشهد على هذا،أنشأها من كتب كثيرة اقتناها في أسفاره أثناء فترة شبابه،خاصة من باريس وأمريكا وأخرى اشتراها من عند باعة الكتب في اسطنبول وكانت معظمها كتب للأدب الأجنبي في السّنوات الأربعينات والخمسينات وكتب أخرى كان يقتنيها من مكتبات كنت اعرفها،عالمي خليط بين المحلي والعالمي،الوطني والغربي،ومنذ سبعينات القرن الماضي بدأت في إنشاء مكتبتي،حتى قبل أن أقرّر أن أصبح كاتبا،وقد تعرضت لهذه التّجربة في روايتي[اسطنبول]،كنت اعلم إنني لن أكون فنانا تشكيليّا ولكن أيضا كنت اجهل أيّ طريق ستسلكها حياتي،كان لديّ فضول أعمى ونهم غير مروّض لمعرفة العالم وعطش للتعلّم المفرط والسّاذج،ومن جهة أخرى كنت أحسّ بان حياتي مكرّسة لحالة من اللارضى والاستياء من المجهول،محروم أنا من أشياء هي بالنسبة للآخرين في متناول اليدّ،هذا الإحساس وليد فكرة إنني بعيد عن المركز،قلقي الآخر وهي إنني اسكن في تركيا،بلد لا يعير أدنى اهتمام للفنانين أيّ كانوا،يمارسون الرّسم أو الكتابة،بلد يتركهم يعيشون حالات اليأس والقنوط المجرم،في السّبعينات عندما كنت اشتري الكتب القديمة، المغبّرة والباليّة من باعة الكتب في مدينتي،كنت افعل هذا ليس من باب التّرفيه كما كان يظنّ البعض،لا،كنت افعل هذا عن طموح مقرونة بالسّخرية و تكملة لحياة لا تأتيني كما كنت ارغب،المظهر البائس للباعة في ساحات المساجد،في زوايا الشّوارع،الاضمحلال والفقر المدقع لهذه الأمكنة التّي تزرع اليأس كانت تأثّر في أكثر من الكتب،أما مكاني في هذا الكون،شعوري في كلّ الأحوال بأنني كنت مبعد،مهمّش وبعيد كلّ البعد عن هذا المركز،سواء في الحياة أو في الأدب،في مركز العالم كانت توجد حياة غنيّة وممتعة ومثيرة عن التّي كنت أعيشها،وأنا المسكين كنت محروما منها كغيري من زملائي، اليوم،أظن بأنني أشارك هذا الإحساس مع الأغلبيّة المهمّشة والصّامتة في العالم،كان هناك أدب عالميّ،مكانه بالضّبط في المركز الذّي أجدني بعيدا جدّا عنه،لكن ما كنت أفكّر فيه كثيرا،ليس هذا الأدب العالمي لكن الثقافة الغربيّة و نحن الأتراك للأسف كنا مبعدون عنه ..
.[ 6 ]
كما تدلّ عليه مكتبته، من جهة توجد الكتب والثقافة الاسطنبوليّة،عالمنا الضّيّق الذّي كنت مغرما بتفاصيله البارحة واليوم وغدّا،ومن جهة أخرى توجد كتب العالم الغربي،كانت الكتابة والقراءة بالنسبة لي وبطريقة ما وسيلة للخروج من عالم للعثور على عزاء يأتي من صلب الاختلاف،من الغرابة وإبداع عبقري للآخر،كنت اشعر باني أبي كان هو أيضا يقرا للهروب من عالمه إلى الغرب،نفس الشّيء أقوم به أنا اليوم،يبدو لي أيضا انه في تلك الفترة كانت الكتب وسيلتنا للفكاك من الإحساس بالنّقص الثقافي،فعل القراءة والكتابة كان يقرّبنا من الغرب ويجعلنا نقتسم معه شيء ما،ليملأ حقيبته بالكرّاسات و المخطوطات كان يختفي في إحدى غرف الفنادق الباريسيّة ليعود فيما بعد إلى تركيا محمّلا بكتاباته،وأنا انظر إليها أحسّ بأنني كنت معنيّا بها،بما تحتويه لأنني جزء من ذلك المحتوى،حقيقة كان الأمر يرعبني،بعد خمسة وعشرين سنة وبعدما أصبحت على ما أنا عليه اليوم كاتب تركيّ وفي وحدتي أعلن تمرّدي وأنا انظر إليها،استطيع قول انها مجموعة من الأحاسيس الغريبة والمتناقضة،قد يكون تمرّدا أو بالأصح ثورة،هذه الحقيبة المخيفة و المسبّبة للقلق والارتباك،لماذا؟،لأنّ مهنة الكتابة أو فعل الكتابة المخلصة تفترض أن نمارسها سرّا عن المجتمع،الدّولة والأمّة،أعتقد انه ذات الإحساس الذّي ينتابني نحو أبي وحقيبته،إنني لم آخذ مهنة الكتابة بالجّديّة المطلوبة،ألومه كثيرا لأنه لم يختر الحياة التي اخترتها أنا،لأنه اختار العيش في المجتمع بعكسي أنا،العيش مع أصدقائه،النّاس الذّين يحبّهم،دون أن يضطر خوض صراعات مكلّفة،لكنّه في نفس الوقت،كنت اعرف أن انتقاداته تغلفها الغيرة، أظن أن صياغتي لهذه الكلمة صحيح لتعبّر عن غضبي،اسأل نفسي بهوس”ما السّعادة؟”،هل هي أن نعيش حياة عميقة وسريّة في عزلة وانعزال في غرفة لنكتب؟،أو أن نعيش حياة سهلة وبسيطة مع المجتمع،والاعتقاد بكلّ الأشياء التيّ في نفس الوقت يحاول العالم أو انه يوهمنا بأنه يعتقد بأنه مثلنا رغم إدراكنا انه تفصل بيننا هوّة سحيقة،أو أن نكتب في الخفاء بعيدين كلّ البعد عن الخارج،في زاوية ما،بشعور اننا نتعايش بتناغم وانسجام مع العالم؟ ،هل هي السّعادة أو سوء الحظّ والنّحس؟،انها أسئلة مرهقة ومزعجة،أسئلة كلهيب النّار تأتي على طمأنينتي،ثمّ من قال أن السّعادة هي المقياس الحقيقي للحياة النّاجحة؟،النّاس،الجّرائد والعالم يتعامل وكأنّ الحياة تقاس فقط بالسّعادة التّي تهديها إيّاهم،وهذا فقط يبرّر بدون أدنى شكّ أن العكس صحيح،في الواقع وبحكم معرفتي بأبي كانت هذه سعادته عندما قرّر في احد الأيّام التّخلي عنا،وقد كان هذا هو الدّافع الرّئيس لفتح حقيبته،قد اعثر على حياته فيها ، اعثر على سرّه وان كانت أسراره كثيرة،بمجرد إن فتحتها تذكرت رائحة حقيبة السّفر وتعرفت على كراساته،ليس كلّها ولكن بعضها،تذكرت بأنه أظهرها لي منذ سنوات دون أن يعير للأمر أدنى اهتمام ..
[ 7 ]
جلّ ما تصفحته من الأوراق الواحدة تلوى الأخرى كان يعود تاريخها إلى فترة شبابه،في تلك الفترة كان قد تخلّى عنا،لكن ما رغبت فيه حقيقة،أنا و ربّما كغيري من الكتّاب الذّين أحببتهم وقرأت لهم هو أن اعرف ما كان يفكّر فيه وما كتبه في سنّي الحاليّة،سريعا،أدركت إنه ليس باستطاعتي عيش هذه التّجربة،كنت منزعجا من صوت الكاتب الذّي أتخيّله في كرّاساته،كنت أقول أو أحاول إيهام نفسي بان هذا الصّوت ليس صوته،صوت كاذب،أو أن هذا الصّوت لا ينتمي للشّخص الذّي اعرفه والذّي هو أبي،كان يخالجني شعور بالقلق أكثر منه خوف بسيط لو اكتشفت في كتاباته انه لم يعد أبي،أقصد انه تخلى عن أبوّته، أو انه كان يكتب تحت تأثير كتّاب آخرين فتتحوّل المشكلة إلى قضيّة هويّة وأصالة فيدفعني هذا للسّؤال كما كنت افعل في شبابي أسئلة حول وجودي،حياتي،رغبتي في الكتابة وما كتبته في السّنوات العشرة الأولى التّي كانت خطواتي الأولى في عالم الرّواية،شعرت بهذا الخوف الحاد، إحساس يطعنني في العمق ولا فرار منه،خفت كثيرا من هذه التّوتر الدّاخلي أن يؤثّر في سلبا ويدفعني لتطليق الكتابة،على ما أظن حدثتكم عن احساسين مقرونين بالحقيبة التّي أغلقتها فوضعتها في مكان بعيد عن الأنظار،الأوّل هو شعور بالرّيفية،إنني من ناس الرّيف و الثّاني هو ارتيابي من الأصالة أو ربّما عدم فهمي لها،بالطّبع ليست المرّة الأولى التّي اقرب فيها بعمق من هذا الإحساس الذّي يشمله التّوتّر والقلق،حتّى عند القراءة والكتابة وأقوم باكتشاف متعمّق في سنوات عمري لهذه التشكيلة الغريبة والمتناقضة من المشاعر وأنا جالس أمام طاولة العمل،بالطّبع،لا أنكر إنني عشت في خضم هذه المشاعر كالعاجز والضّعيف والخائف والمتلاعب به،ليس مرّة واحدة ولكن مرّات عديدة،خاصة في شبابي،الم على نطاق واسع،قابليّة للطعن،فوضى العقل حيث الحياة والكتب لا ينفكان في إيذائي بطريقة ما،أدركت فيما بعد أن الوعي لعبة خطيرة مع الواقع والحقيقة،ولم أصل إلى قناعة شبه مطلقة بأنني ريفيّ والخوف من إنني لست أصيلا إلا بفضل الكتابة والكتب[رواية”ثلج”و”اسطنبول”فيما يخصّ الرّيفيّة و”اسمي احمر”و”الكتاب الأسود” فيما يخصّ الهويّّة والأصالة]،بالنسبة لي أن تكون كاتبا هو أن تضغط على الجّروح السّريّة والتّي نحاول إخفاءها عن الآخرين،جراح ندرك انها متجذّرة ومن الصّعب أن نشفى منها،نعرف جيّدا انها في مكان ما من الدّاخل رغم تستّرنا عليها،من الأفضل اكتشافها بهدوء،مواجهتها والاعتراف بها،وجعل منها بما فيها الآلام جزء من كتابتنا وهويتنا،أن تكون كاتبا هو أن تتكلم عن أشياء حيث إن العالم يدركها لكنّه إدراك ناقص وغير ناضج،اكتشاف هذه المعرفة ومشاركتها القارئ هي بحدّ ذاتها حكمة،ستدفعه بغبطة وسرور لاكتشاف عالم يراه قريبا منه و ربّما يعرفه حقّ المعرفة،الكاتب الذّي ينغلق حول نفسه في غرفته ويطوّر موهبته ويحاول تأسيس عالم بدءا بجراحه السّريّة،استنطاق الذاكرة التّي يصعب اختراقها إلا بالاستذكار والاستحضار والقلم و الورقة بوعي،هذا الكاتب يكون قد قدم ثقته العميقة للإنسانيّة بطيبة قلب ..
[ 8 ]
كانت لدي ثقة راسخة أن الآخرين هم أيضا يحملون ذات الجّروح،الناس يتشابهون في هذا النّوع من الآلام و كأنّه قدرهم،بحسبي أن الرّجال سواسيّة، الأدب الحقيقي يرتكز على هذه الثقة،على تفاؤل طفوليّ بريء،شخص بمعزل عن المجتمع يكتب لسنوات هو في الحقيقة يكتب لهذه الإنسانيّة ولعالم بدون مركز،لكن مثلما نحاول فهمه من حقيبة أبي و ألوان الحياة الباهتّة المتلاشيّة التّي قضيناها في اسطنبول كان للعالم مركز و لكنّه كان بعيد جدّا عنا ، تحدثت كثيرا عن هذه المشاعر التشيكوفيّة الرّيفية وقلق الأصالة والتّي مصدرهما تجربة هذه الحقيقة الأساسيّة،اعرف من تجربتي أن الأغلبية السّاحقة من سكان العالم تسكنهم هذه المشاعر الضّاغطة وهم في ذات الوقت في مواجهة حالة عوز للثقة في النّفس وضدّ الخوف من الاهانة،نعم،هموم الإنسانية واحدة،الفقر،نقص الطعام والسّكن،لكن للأسف القنوات التلفزيونية والجرائد تتكلم عن هذه المشاكل الأساسيّة بسرعة وبتسطيح وليس الأدب،ما على الأدب أن يقوله للناس ويحكيه ويكتشفه اليوم هي المشكل الرّّئيس للإنسانيّة،الخوف من الإقصاء والإلغاء والإحساس بالأهميّة،الشّعور بأننا دون جدوى، المساس بالحبّ الصّادق الذّي هو مصدر سعادة المجتمعات،الهشاشات،الخوف من الاهانة والتّدنيس،الغضب بكلّ أشكاله،الحساسيات والتفاخر الوطني، افهم تشكيلة البارانويا هذه،استوعبها والّتي تصاغ في العادة بلغة غير واعيّة وغير ناضجة وشديدة الحساسيّة إلى حدّ الصدام مع الآخر،في كلّ مرّة عندما أحدق في العتمة التي بداخلي،نشهد على هذه الحشود الغفيرة من المجتمعات والأمم التي تشكّل عالما خارج الغرب،الغرب الذّي اكتشف فيه نفسي ،اعرف أيضا في نفس الوقت بان الأمم وحكومات العالم الغربي والتّي اكرّر مرّة أخرى إنني أجد نفسي منه وفيه انه عالم في بعض الأحيان يصيغه الغرور والفوقيّة[غرب لازمته القديمة الجديدة هي انه غرب النّهضة والتّنوير والحداثة ومجتمع الرّفاه]،وفقا لذلك،ليس أبي فقط،بل نحن جميعا كنا نبالغ في الإيمان بفكرة أن العالم له مركز،مع ذلك الذّي يبقينا محبوسين في غرفة لسنوات للكتابة هي ثقة معاكسة للحقيقة،اقصد،إيمان من اجل يوم ما يقرا فيه النّاس ما كتبناه،لا يقرؤون فقط،يفهمون ولما لا يؤمنون،لأن هؤلاء النّاس يتشابهون على حد سواء في كلّ مكان،لكن اعرف هذا من نفسي،عن قناعة، و أيضا عن أبي من خلال ما كتبه بأنه تفاؤل مضطرب،متقيّح،ملهم من خوف بان نكون على الهامش،في الخارج،شعرت كذا من مرّة وبداخلي بمشاعر الحبّ والكراهيّة التّي شعر بها فيما مضى دستوفسكي ضدّ الغرب،لكن ما تعلمته منه،المصدر الحقيقي لتفاؤلي هو عالم مختلف الذّي بناه هذا الكاتب الكبير انطلاقا من علاقة حبه وكرهه لهذا لغرب لكن في نفس الوقت متجاوزا هذه الحالة ..
[ 9 ]

كل الكتاب الذّين وهبوا حياتهم لهذه المهنة يعرفون هذه الحقيقة، أن الأسباب التّي تدفعنا للكتابة و العالم الذّي بنيناه بمنطق الكتابة لسنوات معمّدا بالأمل هو من أجل أن نرى إنتاجنا الأدبي في كلّ الأمكنة،يقراه العالم الآخر الذّي ينظر الينا بعين الرّيبة والدّهشة،من أمام الطاولة حيث نجلس مع حزننا و غضبنا،نكون قد وصلنا دون أن ندري إلى عالم نجهل ماهيته، مختلف عمّا كان يدور ببالنا ، ابعد من الحزن و الغضب،ألا يمكن لأبي انه وصل إليه بعد رحلة طويلة و مجهدة،يشعرنا هذا بفعل المعجزة،تماما كجزيرة تظهر أمامنا،بكلّ ألوانها من خلف الضّباب فوق البحر، أو يشبه ما يشعر به المسافرون القادمين من الغرب و هم يصلون إلى اسطنبول وقد بانت لهم من خلف الضّباب، يحدث هذا عند نهاية السّفر الطّويل المحمّل بالأمل والفضول،ندرك في دخيلتنا أن هناك مدينة في انتظارنا،عالم بمساجده،مناراته،منازله وبيوتاته العتيقة،الطرقات ومنحدراتها،تلالها، تسكننا رغبة الدّخول إلى هذا العالم و الضّياع فيه،تماما مثل قارئ ضائع بين صفحات كتاب ما، جالسون أمام هذه الطاولة التّي حدثتكم عنها منذ فترة،ثمّّ نكتشف فجأة عالما جديدا ينسينا أحاسيسنا المضطربة،بالنّسبة لي كان مركز العالم هو اسطنبول، ليس فقط لأنني عشت فيها كلّ حياتي، لكن أيضا انه منذ ثلاثة و ثلاثين سنة كنت احكي عن طرقاتها،جسورها وناسها وكلابهم،منازلها ومساجدها،نافوراتها،أبطالها مثيري الإعجاب، محلاتها وحوانيتها وأسواقها الشّعبيّة،ناسها البسطاء و الشّعبيين،زواياها المظلمة،لياليها ونهاراتها،أجدني في كلّ هذا ومن هذا،جزء لا يتجزأ من عالمي،من وجهة نظر مختلفة اكتشف أن هذا العالم المتخيّل يفلت مني ليصبح حقيقة في راسي كالمدينة التي أعيش فيها،إذا،كلّ هؤلاء النّاس والشّوارع،هذه الأشياء والبنايات،اشعر بها أو هذا ما يبدو لي ككاتب و هي تتحدّث مع بعضها،تتواصل بلغة خاصة بها لا افهمها،تقيم ما يشبه فيما بينها علاقات يصعب استشعارها، انهم في الحقيقة وللعجب يعيشون طقوسا غريبة،اغرب من الخيال نفسه،هذا العالم صنيعة مخيّلتي الثرية شيدته هنا في رأسي بعناد وصبر وكأنني احفر بئرا بإبرة،فيبدو لي أكثر واقعيّة مما كنت أتصوّر،عندما انظر للحقيبة اعتقد أنه ربّما هو أيضا كان يدرك السّعادة التّي هي حكر على الكتّاب الذّين وهبوا سنوات عمرهم لهذه المهنة وانه من الأفضل أن لا أصدر في حقه الأحكام أو أن انحاز إليه،بالإضافة إلى ذلك أنا ممتن له لأنه لم يكن أبا عاديا،صاحب سلطة أبويّة،شاكر له لأنه احترمني و ترك لي هامش كبير من الحريّة،في بعض الأحيان يبدو لي أن مخيّلتي يمكن أن تشتغل بحرية كخيال الأطفال،لأنني لا اعرف ما معنى الخوف من الفقدان ، بعكس الكثير من أصدقاء الطّفولة والشّّباب وفي بعض الأحيان كنت أفكّر أن أكون كاتبا لأنه رغب هو أن يكون كاتبا في شبابه ..
[ 10 ]
من واجبي أن أقرأ له بتسامح و فهم ما كتبه في غرف الفنادق التّي آوته فيما مضى، أن اقرأ أفكاره المتفائلة،فتحت الحقيبة التّي كانت في مكانها الذّي تركها فيها وهذا لأيّام،وقرأت ما فيها،حشدت كلّ قواي الفكريّة لهذا اليوم الموعود،بعض الكراسات، بعض الصّفحات،ترى ماذا كتب؟،أتذكّر فيما أتذكّره مناظر الفنادق الباريسيّة، بضعة أشعار،تناقضات،منطق ،اشعر الآن كشخص يتذكّر بصعوبة،أو بالكاد يتذكّر بعد حادث سيارة، ما حدث له ثمّ يحاول استرجاع مخزون ذكرياته الهشّة،في طفولتي عندما كانت أمي و أبي على وشك الشّجار،لم يكن شجارهما تقليديّا كما هو عند عامة النّاس،كان شجارا بطعم الصّمت القاتل،كان يشغّل الرّاديو لتغيير المزاج و كانت الموسيقى تنجح في إضفاء الهدوء والسّكينة،نغيّر الموضوع ونقول كلمات لها علاقة بالموسيقى الصّادرة من جهاز الراديو،وكما تعرفون فالسّؤال البديهي الذّي يطرح على الكتّاب كالتالي:” لماذا تكتبون؟”،فأجيب اكتب لأنه لدي الرّغبة، أكتب لأنني لا أستطيع القيام بأعمال أخرى كما يفعل غيري،اكتب حتى تكتب الكتب التّي تشبه كتبي ومن ثمّ اقرأها،اكتب لأنني غاضب ضدّكم جميعا،من العالم،اكتب لأنني أجد راحتي و طمأنينتي عندما أكون في غرفتي وحيدا لأيّام دون أن أشعر بالضّجر والقلق،اكتب لأنني لا احتمل الحقيقة التّي يحاول العالم تمييعها،اكتب حتى يعرف العالم أيّ حياة عشناها،نعيش نحن،الآخرون،جميعنا في اسطنبول،في تركيا،اكتب لأنني أحبّ رائحة الورق والحبر،اكتب لأنّ فوق كل هذا أؤمن بالأدب والكتابة،فنّ الرّواية،اكتب لأنّها عادة وعاطفة،أكتب لأنني أحبّ المجد والاهتمام الذّي تجلبه الكتابة لأصحابها،لأنني خائف أن أنسى،أكتب لأكون وحدي،على أمل أن أفهم لما أنا غاضب جدّا من العالم،اكتب لأنني أحبّ أن يقرأ لي العالم،لأخبر نفسي أو أحرّضها بوجوب الانتهاء من هذه الرّواية،اكتب حتى انهي هذه الصّفحة التّي بدأتها،لأنني أؤمن كطفل في خلود المكتبات و المكانة التّي ستأخذها كتبي،اكتب لان الحياة، العالم ، كلاهما ممجّدان بالرّوعة والجّمال،أكتب لأنني أجد متعة في ترجمة الكلمات إلى كلّ هذا الجّمال والثّراء المكتنز في خبيئة الحياة،أكتب ليس لأنني أريد أن احكي قصصا لكن لبناء مدينة الحكايات،أكتب للهروب من الشّعور بالعجز لعدم قدرتي على الوصول إلى أمكنة يتطلع إليها غيري، كالأحلام، اكتب لأنني لا استطيع أن أكون سعيدا،مهما فعلت،لذا فأنني اكتب من اجل هذه السّعادة،أسبوع بعد وضع محتويات الحقيبة فوق مكتبي زارني أبي، بالطبع وكعادته كان محمّلا بعلبة حلويات[نسي أن سنّي كان آنذاك خمسة وخمسون سنة]، كالعادة تحدثنا عن كلّ شيء،الحياة،السّياسة، قيل والقال العائلة ..
[ 11 ]
خلسة ألقى نظرة خاطفة حيث وضع حقيبته في آخر مرّة،وفهم بأنني أزلتها من مكانها،أزلتها يعني كذلك إنني فتحتها،ساد صمت محرج في الغرفة و التقت نظراتنا معبّرة عن شيء ما دون أن ننطق بكلمة واحدة،لم اخبره بأنني فتحتها وإنني حاولت قراءة محتوى الكرّاسات،تهربت من نظراته التّي تدينني،أظنّه فهم كلّ شيء و أدركت بدوري انه فهم ما فهمته،هذا النّوع من التّفاهم المتبادل لا يدوم إلا فترة وجيزة،لأنّه كان رجلا واثقا من نفسه، مرتاح وسعيد،ضحك وعند مغادرته وكأبّ مهتم وعطوف كرّر كلمات رقيقة ومشجّعة،وكعادته وهذا ما بدا لي عند خروجه امتلأ قلبه بالسّعادة والرّضا، كنت حقيقة احسده على هذا،انه أبي لكنّه ليس ككلّ الآباء،تذكرت انني في ذلك اليوم شعرت بهزّة عنيفة وعميقة مصدرها حرجي منه،لست أكثر ارتياحا منه،لم اعش حياة سعيدة وبدون مشاكل مثله،لكن كما تعرفون جميعا إنني أعدت محتويات الحقيبة إلى مكانها الأصلي،لماذا؟،ربّما حتى لا ينكشف أمري ، خجلت لأنّ هذا النّوع من الشّعور خالجني اتجاهه،كلّ ما في الأمر انه كأب متفّّهم تركني أعيش حياة عاديّة على غير العادة ، كلّ هذا يجب أن يذكّرنا بان فعل الكتابة والأدب مرتبطان بفعل الحرمان الذّي يؤثث حياتنا،مقرون بإحساس السّعادة والإدانة في نفس الوقت،لكن حكايتي لديها نصف ثان متماثل، يثير في الشّعور بالذّنب،وما تذكرته في ذلك اليوم،أيّ بعد مرور ثلاثة وعشرون سنة وعندما كان عمري آنذاك اثنان و عشرين،قرّرت أن أتخلى عن كلّ شيء من اجل أن أصبح روائيا،انزويت في غرفتي وأربعة سنوات من بعد أنهيت أوّل رواياتي[السّيد جودت و أبناؤه] ، و قدمت له نسخة من المخطوط المرقون بآلة كتابة وبيدين مرتعشتين ليقراه ويعطيني وجهة رأيه،الحصول على مباركته التّي بالنسبة لي لهو أمر مهمّ،ليس فقط هذا،بل لأنني اعتمد على ذوقه الفنّي وذكائه،وبعكس أمّي كان لا يعارض البتة أن أكون كاتبا،في تلك الفترة كان لا يقيم معنا، كان بعيدا،كنت انتظر عودته بفارغ الصّبر، و عندما عاد بعد أسبوعين ركضت نحوه وفتحت له الباب،لم يقل شيء،احتضنني،قبلني كما يفعل الآباء وكنت قد فهمت أنه أحبّ الكتاب، لوقت وجيز بقينا صامتين،غير مرتاحين،كما يحدث في لحظات الانفعال الكبير، بعد تجاوز لحظة الصّمت والانفعال واللااريحيّة تحدثنا،عبّر بطريقة مفرطة ومتحمّسة و بكلمات مبالغ فيها بأنني سأحصل في يوم ما على جائزة مهمّة،ربّما قال هذا من باب القناعة بما كتبته أو للتلميح لشيء آخر،مثل أي أب تركي يقول لابنه مشجّعا إيّاه بأنه سيصبح باشا،كان يكرّر هذه الكلمات لسنوات وفي كلّ مرّة يراني فيها من اجل تثبيت عزيمتي وتشجيعي، مات أبي في ديسمبر 2002 ..
حضرات أعضاء الأكاديميّة السويدية الموقرّين والذين قدمتم لي هذه الجّائزة،هذا الشّرف وكذلك للضيوف الكرام،كم رغبت أن يكون أبي بيننا في هذا اليوم ..
____________________

-* الخطاب الذّي ألقاه الرّوائي اورهان باموك أمام لجنة نوبل للآداب في السّويد بتاريخ 7 ديسمبر 2006.
___________

* روائي ومترجم من الجزائر.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *