إبراهيم الملا
كيف يمكن لكذبة غير مخطط لها، ومقرونة بالصدفة المحضة، أن تتوسع مثل دائرة هائلة وجارحة تصيب شخوصا عديدين وعلى مستويات أفقية وعمودية تلامس من نعرفهم ومن لا نعرفهم، بحيث يتحول هؤلاء الشخوص في لحظة مأساوية مفارقة إلى ضحايا محاصرين بانهيارات وعذابات متلاحقة وناتجة عن هذه الكذبة وعن تداعياتها المهلكة؟
هذا السؤال الإشكالي والأخلاقي بالدرجة الأولى سيكون محورا ومرتكزا لفيلم بعنوان «الكلمات» The words للمخرجين براين كلوغمان، ولي ستيرنثال والذين كتبا أيضا سيناريو هذا الفيلم الشائك والمدوّخ بكل ما يحتويه الوصف من معنى ومن ارتحال شاق ومنهك نحو تفكيك مصطلح (غواية الشرّ) أو إغراءات الجريمة المعنوية، التي يمكن أن تتحول من خلالها الكلمات البريئة والمحايدة ظاهريا، إلى خناجر وأمواس تجتاح وتقتحم في العمق حيوات أناس بعيدين، تركوا ماضيا صاخبا خلفهم واطمئنوا لحاضرهم الذي تكيفوا وتعايشوا معه بدعةِ وسلام.
اختار فيلم «الكلمات» أن يوجه حبكته الدرامية في مسار عمودي يهبط تارة ويصعد تارة أخرى على سلم الزمن الواقعي والراهن في مستوياته العليا، وزمن آخر افتراضي وتخيلي في مستوياته القابعة تحت سطح هذا الواقع وفي أعماقه الداكنة والمحتشدة بالأحداث والانعطافات السردية، وعلى كل حال فإن هذا العمق المتواري لن يكون منفصلا تماما عن الإشكالية الأخلاقية الخفية التي يعاني منها الراوي الأصلي والأساسي في الفيلم، والتي ستعبّر عنها وستشغلها هنا شخصية أدبية معروفة في المجتمع يجسّدها الممثل دنيس كويد في دور الروائي كلاي هاموند الذي يروج لروايته الجديدة بعنوان «الكلمات» ويشرع في قراءة أجزاء منها أمام عشاقه ومتابعيه. وهذا السرد الشفهي سيتحول بدوره على الشاشة إلى صياغة بصرية مترجمة لمناخات وانفعالات الشخوص الذين تتضمنهم الرواية، وترتكز هذه الصياغة التجسيدية على الأزمات والتحديات والمكابدات المحيطة بحياة الكاتب الشاب روي جانسن (يقوم بدوره الممثل برادلي كوبر) الطامح إلى الشهرة والثراء من خلال تحقيق روايات تلقى شيوعا ورواجا في الوسط الثقافي والاجتماعي المحيط. ويسعى الشاب روي وبمساندة معنوية من خطيبته دورا (الممثلة زوي سالدانا) إلى التخلص من عبء الوظيفة والتفرغ بشكل كامل للكتابة، وهو الأمر الذي يقوده لتضحيات مثل الاستقلال المالي وعدم الاعتماد على والده لتسديد نفقات شقته الجديدة والمتواضعة الذي يتمنى روي أن تتحوّل إلى مختبر ومعمل وورشة لكتابة روايته الأولى، على اعتبار أنها تمثّل عتبة ومنصة تنقله إلى عالم آخر جديد وزاه بالوعود والنجاحات المتلاحقة، ولكن لسوء حظ الكاتب الشاب فإن مسودة روايته الأولى ستكون مرمية وسط أطنان من المسودات الأخرى في مخازن دور النشر، والتي تسعى هي الأخرى لتحقيق مكاسب مادية طائلة من وراء كاتب جديد موهوب، يملك خيالا متقدا ومميزا وقادرا على إنتاج رواية مدهشة وساحرة وملبية في ذات الوقت لمتطلبات وشروط سوق النشر.
وهذا الإحباط الذي يرافق المحاولة المبكرة أو المغامرة الأولى لروي في عالم الكتابة والنشر، سوف تدفعه للاستدانة من والده وللمرة الأخيرة كما يشترط الأب، حتى لا يكون ابنه مجرد حالة مكتملة للفشل والاعتماد على الآخرين. روي بدوره سوف يستغل المبلغ في تسديد ديونه والزواج من خطيبته واصطحابها في رحلة شهر العسل إلى مدينة الثقافة والنور والإلهام الروحي (باريس)، وهناك وفي إحدى جولاته داخل سوق التحف القديمة سوف يعثر روي على حقيبة ملفات قديمة ما زلت تحتفظ بسحرها وأناقتها ويقرر شراءها. وبعد عودته إلى أميركا يقرر روي الشروع في كتابة روايته الثانية بعد تأكده من فشل الأولى في إثارة الشهية الربحية لدى الناشرين، ويضطر للعمل في مهنة متواضعة بإحدى دور النشر حتى يكون قريبا ومتابعا لتطورات سوق الكتابة الروائية، وحتى لا يعود للاستدانة مرة أخرى من والده.
وفي إحدى ليالي الأرق والبحث عن شرارة أولى ومشجعة لبدء كتابة روايته الثانية، يعثر روي وبالصدفة على مسودة قديمة لرواية بعنوان «دموع النافذة» في الحقيبة التي ابتاعها من سوق التحف بباريس، ويشرع في قراءة الرواية المجهولة لكاتب مجهول يبدو أنه أميركي عاش لفترة في العاصمة الفرنسية وكتب حكاية مذهلة عن متاهات الحب والحرب أثناء مشاركة القوات الأميركية في الحرب العالمية الثانية ومساندتها لفرنسا في حربها ضد الفاشية والنازية- في استعادة مقصودة ربما لسيرة الروائي الأميركي الشهير أرنست هيمنجواي-.
ومن شدة اعجابه بالرواية يقوم روي بنسخها على جهازه حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وحتى الأخطاء الإملائية نقلها دون حذف أو تغيير، لتظل قابعة على الشاشة بصمت وجلال وتوقير مبجل لكاتب الرواية الأصلي والمجهول تماما. عندما يعود روي من عمله في اليوم التالي يفاجأ بزوجته وهي تبكي وتعتذر له عن اقتحامها لخصوصيته الكتابية، غير أنها تبوح له بأنها قرأت الرواية الجديدة لزوجها بنهم غريب ولم تتوقف سوى مع السطر الأخير من هذا العمل الاستثنائي كما وصفته، وأشارت على زوجها بضرورة عرضه على إحدى دور النشر الشهيرة، لأن هذا العمل بالذات سوف يفتح عليه باب الشهرة الأدبية من أوسع المنافذ والطرق. وبدهشة مقرونة بالصدمة والزهو المخادع، يصمت الزوج عن التصريح بملابسات الليلة الفائتة، وتسوغ له فكرة انتحال وتزييف الحقيقة خصوصا وأن احتمالية موت الكاتب الأصلي واردة وبقوة لأنه كتبها في الأربعينات من القرن الماضي، كما أن حلم روي المنطفئ في أعماقه يمكن له أن يتوهج مرة أخرى من خلال هذه الرواية المكتوبة بشغف فائض، ومخيلة سردية فاتنة، وصياغة أدبية متفردة، وعندما تنطلي الخدعة على الجميع ابتداء من الناشر، ومرورا بالقراء والمعجبين، وانتهاء بروي نفسه المنتشي بكذبته الكبيرة لدرجة الاقتناع والإيمان المطلق بأنه الكاتب الأصلي للرواية. في هذه اللحظة الثملة للنجاح المدوي، يصطدم روي برجل مسن (الممثل جيريمي آيرونز) وهو يفاجأه في لحظة قاسية بأنه الكاتب الأصلي لرواية «دموع النافذة» والتي ظل يبحث عنها بيأس طيلة أربعين عاما لأنه كتبها بدمه ودموعه وعذاباته وآلامه عندما عاش قصة حب عاصفة في باريس أثناء تأديته للخدمة العسكرية فترة الحرب العالمية الثانية.
وهنا وابتداء من هذه اللحظة الصادمة المنطوية على عبث وجنون ومصادفات حاشدة بالذكرى والعشق والفقدان، ومأهولة بلعبة المرايا المتحركة، يقودنا الفيلم إلى المستوى السردي الثالث، أو إلى الرواية الثالثة الموصولة بخيط من المتاهة والمكر والانتحال مع الروايتين الأولى والثانية، حيث نتعرف على الجندي الشاب الذي يتعرف على جندي آخر من فرقته مهتم بعالم الأدب والروايات والذي يجذبه إلى منطقته ويقحمه في هذا المناخ الخيالي الأثير الذي تتحول فيه الكلمات المجردة إلى مخلوقات تهيم وتتشكل وتتصارع وتتعانق حسبما توجهها وتتحكم فيها مخيلـة الروائي أو الكاتـب أو الشاعر.
وبعد تعرفه على نادلة فرنسية جميلة وزواجه منها يبدأ هذا الشاب في دخول مغامرة روحية وإنسانية مضيئة أولا، ثم غارقة في العتمة، وممزقة في النهاية، بعدما تموت طفلته الوحيدة، وتهجره زوجته، فيتحول إلى كتلة من المعاناة والعزلة الضارية المتفجرة وسط الأوراق ووسط رواية صاخبة بانتشاءاتها ودماراتها، وهي الرواية التي سوف تضيع مسودتها الوحيدة والأخيرة في قطار هارب ومنسي في الزمن ليعثر عليها مصادفة وبعد أربعين عاما الكاتب المحبط روي الذي ينسبها لنفسه ويحوز نجاحا لا يستحقه وندما مريرا سوف يتوج علاقته بالرجل المسن الذي يموت بعد أيام قليلة من مواجهته للكاتب المزيف. وفي لحظة خاطفة يستيقظ ضمير روي الداخلي ويقرر دفن المسودة الأصلية مع جثة الرجل، ولكنه يستمر في خداع الجميع ولا يفشي بالسر سوى لزوجته ويقرران المضي في هذه الخدعة اللامعة واقتسام ميراث الألم والتضحيات الكبيرة للكاتب الأصلي، من دون وجه حق، ومن دون تراجع أو كشف يمليه الاعتراف بالحقيقة حتى لو كانت هذه الحقيقة موجعة ولاسعة على المستوى الاجتماعي للمتورطين في طمسها وتغييبها عمدا.
وفي نهاية الفيلم نستمع للراوي الأساسي الذي شاهدناه في بداية الفيلم، وهو يقول لإحدى الفتيات المعجبات بأعماله بأن «الفن والحياة ليسا شيئا واحدا»، في إشارة إلى أن الفنانين والكتاب والروائيين والشعراء يمكن لهم أيضا أن يستلذوا بالخديعة خصوصا إذا كانت مكاسبها مغرية ومحاطة بالشهرة رغم زيفها، وبالثراء رغم تلوثه بأساليب ماكرة وبهدر فائض للنزاهة والمثالية الساكنة فقط في أذهان المعجبين!
– الاتحاد