لينا هويان الحسن *
«الشُمبل» هي التسمية المنسيّة أو المجهولة أو المتجاهلة لأكثر من خمسين عاماً بدءاً من تاريخ الغاء قانون العشائر، أي منذ ذلك اليوم الذي صدر فيه قانون رئيس الجمهورية العربية المتحدة (رقم 166 لسنة 1958) وقضى بإلغاء قانون العشائر في الإقليم السوري بتوقيع جمال عبد الناصر.
بعدما صدر هذا القرار مباشرة، ألغيت مدارس العشائر الكائنة في تدمر ومعرة النعمان والضمير ودير الزور، بعدما أدّت دوراً تنويرياً أساسياً في تعليم عدد كبير من أبناء البدو الرحل آنذاك. معظم الذين تخرجوا من تلك المدارس أثبتوا حضوراً رائداً في مجتمعاتهم. كذلك، ألغيت مديرية العشائر التي كان مقرها في أبو رمانة (في قلب دمشق). كانت للمديرية أهميتها في تدبير أمور العشائر وفي فضّ النزاعات القبلية وغيرها من المشاكل العشائرية.
«ديرة الشمبل» تشمل البادية السورية من شرق حماة على بعد 30 كيلومتراً إلى تخوم تدمر جنوباً، وتخوم حلب شمالاً. مع نهاية عام 2012، يمكن اعتبار منطقة «الديرة» خالية من وجود الجيش النظامي. لقد تحوّلت المنطقة إلى أرض لمعارك قديمة تجددت نارها ووقعت المنطقة في براثن القبلية وانتشرت حواجز مسلحة تتبع لعشائر متعادية منذ أكثر من قرن. ولعل أشهر تلك الحروب هي حرب قبيلتي «الموالي» و«الحديديين» التي استمرت أربعين عاماً، ولم تخمد نارها إلا بعد مؤتمرات قبلية عدة في عهد الفرنسيين، أرغمت القبيلتين على عقد الصلح بعدما اشتكى أهالي المدن المتاخمة لـ «الشمبل» مثل حمص وحماة والسلمية.
إنّها «ديرة الشمبل» التي ترزح تحت نير «العشائرية» وأحقاد عمرها أكثر من قرن. وسبق أن أرّخ لحرب القبيلتين المقدم الفرنسي فيكتور موللر في كتاب سمّاه «قتال بين قبيلتين غنامتين».
لعل القليلين منّا يعرفون أنّ البادية المتاخمة لحلب وحمص وحماة، تقع تحت سيطرة قبيلتين متناحرتين: الأولى والأقدم في المنطقة هي قبيلة «الموالي» التي تقول إحدى الروايات التاريخية إنّ أمير هذه القبيلة (وهنا يرجع التاريخ إلى ما قبل الفتوحات الاسلامية)، قد وقعت في غرامه ثيودورا ملكة القسطنطينية، زوجة جستنيان التي ذكرتها المصادر التاريخية على أنّها عربية من منبج (محافظة حلب). وقع جستنيان في غرامها رغم ماضيها «المشبوه» اجتماعياً. ويبدو أنّ ثمة مأثرة غرامية أخرى «مرّرها» التاريخ على شكل قصاصات من هنا وهناك، تتعلق بغرامها بأمير قبيلة عربية كانت تجوب تخوم حلب ومنبج. وإلى اليوم تقطن قبائل من «الموالي» تلك المناطق. ويُذكر أيضاً أنّ ثيودورا اشترت لأميرها المعشوق كتيبة من المماليك ليشكّلوا نواة جيشه، وكان أولئك المماليك من أعراق مختلفة. لاحقاً، شكّلت عائلاتهم «القبائل» التي التفت حول عائلة الأمراء. وربما يفسر هذا اختلاف «نخوة» الأمراء (أي صيحة الحرب) عن نخوة بقية «الموالي» (الأمراء نخوتهم «راعي البلها ولد الأمير». أما بقية «الموالي»، فنخوتهم واحدة «دواخلة»). أيضاً، تفسّر تلك الحكاية اسم «الموالي» المرتبط بمفهوم «الموالاة» وتشير بالفعل إلى حالة التكوين الأولى لهذه القبيلة التي عُرفت كأقدم قبيلة بدوية في بلاد الشام، ولمّا تزل منازلها قريبة من حلب ومنبج.
لكن ما هو أكيد في تاريخ قبيلة «الموالي» أنّهم أقدم وأشهر قبائل بلاد الشام التي سجلت حضوراً مبكراً جداً مقارنة بقبائل أخرى مثل «عنزة» و«شمر» وغيرهما.
أول من ذكرهم من الفرنج المستشرق الإيطالي دللا واللا الذي جاء إلى البلاد العربية في حدود سنة 1071 هجري، وما قاله إنّ أمير بلدة عانة على الفرات وكل البادية يدعى فياضاً، وهو من آل أبي ريشة، أمراء عشيرة «الموالي» السائدة في الضفة اليمنى من الفرات. ثم ذكرهم المستشرق الدانماركي كارستن نيبوهر الذي زار بلاد الشام في حدود سنة 1180 هجري، وقال إنّ أكبر عشيرة في أنحاء حلب هي «الموالي». والأسرة التي تحكمها تدعى «الأبو ريشة». فقد بسط أمراء «الموالي» نفوذهم من حمص وسلمية (سلمية كانت عاصمتهم) إلى حلب فوادي الفرات وأطراف العراق. أحدهم واسمه فياض (كما تقول الروايات) نصب عموداً وسط فيافي الحماد سمّاه «عمود الحمى» حرم به العشائر النجدية المتحفزة للقدوم نحو بادية الشام من تخطّيه والاقتراب من مناطق نفوذ «الموالي» في تلك البادية.
ظل أمراء «الموالي» أسياد البادية الشامية يمنعون اختراق «عمود الحمى» على العشائر القادمة حديثاً من الجنوب أو الشرق إلى أن كان أول المتجاسرين على اختراقه بنو خالد، الآتون من الأحساء للمرة الثانية في أواسط القرن الحادي عشر. صدّتهم «الموالي» بادئ ذي بدء، لكن بعد معارك عديدة، استظهر بنو خالد على «الموالي» في معركة «جب الصفا» ونفذوا إلى ديرة «الشمبل»، واستقروا حتى يومنا هذا.
والآن، تعود شخصية طراد العبد الابراهيم إلى السطح، رغم أنه توفي منذ ثلاثين عاماً. إنه رجل التجاوزات. كان الأمير طراد رجلاً بدوياً من الطراز الخام. المعروف عنه عدم اعترافه بتوزيعات «الاصلاح الزراعي»، فظلّت «الموالي» بقيادته تجتاح القرى الجديدة المستحدثة قريباً عقب الاصلاح. حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كانت المنطقة تعاني من مزاجه البدوي و«تعاليه» على القرارات الحكومية، وأدى ذلك إلى صدامات دامية راح ضحيتها بعض الفلاحين. ظلّت «الموالي» تعتبر ديار «الشمبل» ومراعيها على اعتبار أنّ القبيلة ذادت عن المنطقة قروناً طويلة، وحاربت لأجلها قبائل ضخمة مثل «شمّر»، وحرَفت مسار الهجرات القبلية صوب الفرات بعدما وقفت «الموالي» سداً منيعاً في وجهها. لم يكن سهلاً أن تتفهم القبائل منطق «الاشتراكية» وغيرها من الطروحات التي ميزت النصف الثاني من القرن العشرين. الأمير طراد العبد الابراهيم لم يقم وزناً لأي من ذلك خلال حياته وتجنباً لمواجهات قد تتحول مواجهات «دامية». السلطة غضت الطرف عن تحديات الأمير طراد وتجاوزاته تفادياً لمواجهات مباشرة مع القبيلة قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. كان طراد وريثاً للعداوة التقليدية بينه وبين زعماء قبيلة «الحديديين» واشتهرت عنه مواجهات حادة مع شيخ «الحديديين» فيصل النواف الذي مثّل قبيلته في البرلمان مراراً. وظلّ الوضع معلقاً ينوس بين العداء الخفي والعداء المشهر حتى وفاة الرجلين. فيصل النواف كان يمثل القبيلة الثانية التي تشكل الطرف الثاني من الصراع الذي دار سنوات طويلة ثم انتهى عملياً قبل أكثر من نصف قرن، لكن ها هو يتجدد الآن بسبب الذاكرة القبلية العنيدة، فقد عادت إلى السطح العداوات القديمة التي ترجع إلى عام 1949، يوم قُتِل شيخ مشايخ «الحديديين» على يد أحد عبيد الأمير الشايش أمير «الموالي» بهدف الحد من نفوذ «الحديديين» بزعامة نواف الصالح (المولود حوالى عام 1888ميلادياً). الأخير كان ربيب القسطنطينية، وضابطاً في الجيش التركي واحتفظ برتبة المقدم من المدرسة التي افتتحها السلطان عبد الحميد العثماني: «فتح في الآستانة مدرسة خاصة سماها «مدرسة العشائر» جمع فيها نخبة من أبناء شيوخهم ورؤسائهم. علّمهم وثقّفهم حتى إذا أكملوها كان يدخل بعضهم في الكلية الحربية، فيخرجون منها ضباطاً برتبة رئيس، ويمنحهم لقب «مرافق فخري» لجلالته. وبذلك كان يحبب إليهم التمدن والتنور وخدمة الدولة من جهة، وخدمة أنفسهم وعشيرتهم من جهة أخرى. وكان يدخل بعضهم في «الكلية الملكية» فيخرجون موظفين إداريين وقوام مقام. وقد تثقف في تلك المدرسة العشائرية رجال كثيرون، سمعنا بخبر بعضهم وأدركنا آخرين، فمنهم تركي النجرس، ورمضان الشلاش، والمرحوم عبد المحسن الهفل. هؤلاء الثلاثة من رؤساء عشيرة العقيدات الفراتية. وعيسى الفحل من السبخة الأبي شعبان، وبرجس ابن هديب شيخ الأسبعة الأعبدة، ونواف الصالح شيخ «الحديديين»، وفايز الغصين شيخ سلوط اللجا الشماليين. وقد صار هذا قاضياً ومحامياً. ومن جبل الدروز علي الأطرش ومحمد عز الدين الحلبي وغيرهما ممن ترأسوا عشائرهم عندما كبروا، ونفعوها كل النفع بدرايتهم وثقافتهم» (من كتاب البارون ماكس فون أوبنهايم «البدو»).
حين تولى نواف المشيخة عام 1915، سعى بعد الحرب العالمية الأولى إلى الالتحاق بالحكومة الجديدة. حصل على ما أراد، فصار فارس جوقة الشرف وعضو الجمعية الوطنية السورية لعام 1928. أبدى نواف براعة كبيرة في سياساته العائلية كما في قيادة قبيلته. كان يجيد الفرنسية والتركية بطلاقة وتواصله مع الجنرال غورو أدى إلى تجنيب «الحديديين» بطش السلطات الفرنسية. قُتل نواف الصالح على يد أحد عبيد الموالي في حلب عام 1949 عندما كان خارجاً من فندق «بارون». كان العبد يتبع الأمير الشايش أمير «الموالي» آنذاك. تجددت الغزوات بين الطرفين بعد مقتل نواف الصالح على شكل مناوشات فردية بين القبيلتين «الموالي» و«الحديديين» إلى أن جرى الصلح بين القبيلتين بإشراف الحكومة الوطنية آنذاك وبحضور شيوخ ورؤساء وأمراء القبائل في المنطقة.
نشبت الحرب أخيراً بين قبيلتي «الموالي» و«الحديديين» بسبب اتهام زعماء «الموالي» لبعض زعماء «الحديديين» بموالاة النظام السوري. وانتشرت الحواجز التي تطلب رؤوس بعض أبناء أولئك الزعماء. وفي الوقت عينه، استغلت العشائر التي تتبع القبيلتين الوضع وانتشرت حواجز للسلب والنهب، ويكفي أن يشار إلى قرية ما تُتهم بأنّ أفرادها موالون حتى يكون ذلك سبباً لمهاجمتها وسلبها ونهبها. والعكس صحيح. الموالون يهاجمون القرى المتاخمة التي يعرف عنها معارضتها للنظام. ومرات كثيرة قُصفت بعض القرى من قبل القوات النظامية فقط لأنّ جندياً غلبه انتماؤه العشائري ووجد نفسه خلف مدفع متاح له، فقصف قرية يقطنها افراد عشيرة يعدها عدوة لعشيرته أباً عن جد؟! حواجز كثيرة يتزعمها أفراد اشتهروا سابقاً بموالاتهم الشديدة للنظام وكانوا بمثابة «المخبرين المخلصين» للأجهزة الأمنية، وحالياً تغير ولاؤهم وأصبحوا من الثوار، لكن ذلك ليس إلا غطاءً لعمليات خطف وطلب «الفديات» في المقابل.
بسطت قبيلة «الموالي» سيطرتها على «الشمبل» تحت اسم «الثورة». وبإصرار، تحاول استعادة ما تعتبره ملكاً لها. أما «الحديديين» الذين اتبعوا سياسة النأي بالنفس منذ العهد العثماني مروراً بالعهد الفرنسي وانتهاءً بالنظام الحالي تجنباً لتكبد الخسائر، فقد غدوا متهمين من قبل عشيرة «الموالي» بموالاة النظام. وبهذه الذريعة، بسطت قبيلة «الموالي» سيطرتها شبه الكاملة على أراض تتبع لـ «الحديديين». علماً أنّه لمدة تجاوزت الستين عاماً، كان أفراد «الموالي» يتجنّبون المرور في القرى التي تقدَّر بأكثر من أربعين تتبع لـ «الحديديين» تجنباً لأي احتكاك معهم. وزادت معاناة المارة من كلا الطرفين في ظلّ الأزمة السورية. مثلاً كيف سيحزر من ينتمي إلى «الحديديين» هوية الحاجز المسلح الذي يفاجأ بوجوده أمامه. سيحار ما إذا كان ينبغي أن يتوقف ويعرّف عن نفسه. المضحك المبكي أنّ القبيلتين تتكلمان لهجتين بدويتين مختلفتين، بحيث يصعب أن يتظاهر «الحديدي» أنّه من «الموالي» والعكس صحيح. وكل يوم يُسمع عن ضحايا جدد يذهبون ضحية الماضي.