مدحت كاكي ولوحة اللون الواحد




هاني حوراني*

( ثقافات )




في معرضه الأول في العالم العربي، والذي يقام في صالة رؤى32
للفنون في23 نيسان/ إبريل الجاري، يواجه الفنان الكردستاني- العراقي مدحت كاكي الجمهور بلوحته التي تلامس اسلوب ( المونوكروم أو اللوحة ذات اللون الوحيد)، والتي إنتهى اليها خلال خلال سنوات غربته الطويلة التي قاربت الثلاثين عاماً عن العراق والشرق الأوسط، موزعاً خلالها إقامته بين شتى المنافي والأوطان المؤقتة.

والفنان مدحت كاكي المولود عام 1954 في كركوك، والذي درس الحفر في كلية الفنون الجميلة ببغداد، قبل أن يتبعها بسنوات دراسته اللاحقة في كلية الفنون ((bellas de san Fernando،مدريد، بدأ مساره تعبيرياً في أعماله المبكرة، مع ميل خاص لتغليب الأسود والأبيض على أعماله، ربما تحت تأثير دراسته لفن الحفر الذي كان يتعامل أساساً مع اللون الأسود المطبوع على ورق أبيض، غير أن سنوات دراسته في مدريد أفسحت المجال لاختزال التفاصيل في لوحته و إلى إنحسار اللون الأبيض فيها لصالح اللون الأسود، حتى غلب الأخير بدرجاته ومشتقاته المختلفة على أعماله. لكن عودته القصيرة بعد سنوات من الغربة إلى العراق، أجبرته على إستعادة شيئ من التشخيصية إلى فضاءات أعماله. ويفسر كاكي هذه الإرتداده بأنها تعود إلى زحمة المنطقة، (ولا سيما العراق)، بالمشكلات والصراعات التي تجبر الفنان على إقحام الشخوص أو البشر، الذين هم محور الصراعات ومادتها، على لوحته.

مع مغادرته الطويلة للإقليم ( العالم العربي والشرق الأوسط )، وتنقله المستمر ما بين السويد وفرنسا واليابان وبلدان أخرى، إزدادت لوحته تقشفاً و إختزالاً إلى الحد الأدنى من اللون والتفاصيل، حتى لم تلبث أن تحولت بصورة كلية إلى لوحة اللاموضوع و إلى إختفاء الخط والتفاصيل لصالح اللون الذي بات العنصر المهيمن، إن لم يكن الوحيد في لوحته منذ أكثر من عقدين. ولا يبدو أن مدحت كاكي قد إستنزف بعد عمليات بحثه وحفره في لوحة اللون الواحد حتى الأن، حيث يعتبر واحداً من أبرز فناني عائلة المونوكروم في العالم المعاصر، وتستقبل معارضه و أعماله جاليرهات هامة في اليابان والسويد وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية.

ينفذ مدحت كاكي لوحاته ذات اللون الواحد بمادة الأكرليك على القماش، وهي تمر بعدة طبقات من الألوان التي تتراصف بعضها فوق بعضها حتى تشكل سطحاً كثيفاً من عجينة الأكرليك قبل أن يصل إلى اللون الأخير لسطح لوحته. وقد لا يصل إلى اللون الذي يشكل بالنسبة له سطحاً مميزاً يملأ عينه بالقناعة فيتركه جانباً ليعود إليه بعد أسبوع أو شهر أو عام ليعيد إنشاء العمل من جديد.

لا تكاد أعمال مدحت كاكي تقترب من الرسم وإنما هي أقرب إلى النحت أو الإنشاء الذي لا يتوقف الا بوصول الفنان إلى القناعة بالسطح الأخير. وهو يرى أن اللون الأخير للوحته لا يمكن الوصول إليه بدون المرور باللون الأول الذي يبدأ به عمله، ويرى صلة وثيقة ما بين الطبقات المتراصفة التى تغطي قماش لوحته، واحدة بعد أُخرى، وبين الطبقة الأخيرة الذي يحمل لون لوحته النهائي. وهو يعتبر الأمر عملية ” بناء ” مستمرة، بعكس الفنانين الأخرين الذين يقوم عملهم على متلازمة ” الهدم والبناء”، وصولاً إلى النتيجة التي ترضيهم.

بطبيعة الحال تحتاج لوحة مدحت كاكي إلى جمهور مدرك ومثقف للتفاعل مع لوحته، ولتذوقها وفهم طابعها المتقشف الذي يختزل عناصر اللوحة التقليدية التي تحتوي، عادة، على لون وخط وتكوين وأبعاد متعددة، إلى مساحة ذات سطح ولون واحد، وإن تعددت درجات وذبذبات هذا اللون الواحد. وكيف للمشاهد غير المدرب أو الذي لا تتوفر له خلفية ما عن رحلة الفن التشكيلي المعاصر، أن يميز بين لوحة وأخرى من أعماله، وكيف يتذوقها، إعتماداً على عناصرها المتقشفة، وهل يقرأها بعقله أم بقلبه و أحاسيسه فقط؟ وكيف يتلقاها بعيداً عن خلفياته الثقافية المعتمدة على النص، وبعيداً عن الإعتقاد المسبق بأن وراء كل لوحة لا بد من وجود حكاية أو سرد لقصة ما؟!

يحتاج مشاهد أعمال مدحت كاكي إلى ثقافة بصرية وإلى حساسية خاصة أقرب ما تكون إلى حساسية متذوق الموسيقى. لكي يتمكن من التعامل مع اللون المجرد والشكل المجرد- وحتى اللوحة التي تفتقر إلى شكل و تقتصر على عنصر اللون، علماً بأن سطح كل لوحة من أعماله لا يحتوي على لون واحد مجرد وإنما على عجينة ذات درجات لونية تخلق لدى المشاهد الإحساس بإنعكاس مادة اللون ( أو عجينة اللون ) على عيوننا في بيئة محددة ومعطاة. وبكلمات أخرى فإن المشاهد سوف يضطر للذهاب إلى حيث عالم الفنان لا أن يتوقع من الفنان أن يذهب هو إليه، أو أن يقدم له تفسيرات، أو حلول لمساعدته على الإندماج في عالمه هو. 

إنها لمغامرة محفوفة بالمخاطر ومجهولة النتائج يقدم عليها الفنان مدحت كاكي، فكيف لأعمال فنية أُنتجت في بيئه مغايرة كلياً لبيئة مشرقية تعج بالحروب غير المحسومة والصراعات التاريخية ومصادر القلق غير النهائية على خبز اليوم وعلى الماء والوقود و المأوى والأمان، كيف لهذه الأعمال أن تُفهم في سياق ثقافة الإقليم وحياته اليومية؟ فهل ننظر اليها كواحة متخيلة في جحيم المنطقة، أو كنافذة نطل منها على عالم طوباوي حلت فيه مشكلاته التاريخية، وأُختزلت الهموم اليومية فيه إلى الحد الأدنى، حتى نمتع أنفسنا بفنون الحدود الدنيا من التفاصيل والألوان، بل و بلوحة ذات لون واحد و وحيد؟!.


* رسام وباحث في الفنون التشكيلية من الأردن

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *