مؤلف هذا الكتاب هو “بول هنري لانج” (1901 – 1991)، ولد في بودابست بالمجر، ودرس في أكاديمية الموسيقى، وانتقل بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية، ثم عمل أستاذًا للموسيقى بجامعة كولومبيا بنيويورك، له العديد من الإسهامات والكتابات المهمة في مجال علم الموسيقى، حتى إن كتابه “الموسيقى في الحضارة الغربية” يعد أحد المصادر الرئيسة التي تؤرخ للتيارات المختلفة في الموسيقى الغربية.
يصحبنا المؤلف في جولة فنية راصدًا اتجاهات الموسيقى في الحضارة الغربية أثناء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من الاتجاه الكلاسيكي، الذي يعد دليلًا للخبرة والنضج الروحي والإنساني، ويهدف لتحقيق أقصى تركيز للتعميم الفنية عند أي شعب، والاتجاه الرومانتيكي، بوصفه حركة فنية على الدوام تهدف لتحقيق “التحرير في الفن”، لتسخير الفن لغايات ثورية، ويعرج الكتاب إلى بعض التيارات الموسيقية المضادة للاتجاهين السابقين، ويرد بعض الإسهامات الفنية لبعض أعلام الموسيقيين الغربيين محل الدراسة مثل: بيتهو من، وشوبرت، وشومان.. وغيرهم.
وفي بداية الكتاب، يشير المؤلف إلى الحركة الرومانتيكية في ألمانيا، قائلًا: اختلفت الحركة الرومانتيكية من بلد لآخر، فلم تبالِ إنجلترا – باتجاهها المحافظ، وحرصها الدائم على الكسب عن طريق التجربة – بالنشاط الذهني السائد في ألمانيا، وتشبثت فرنسا – كما في القرن التاسع عشر – بمثلها الكلاسيكية، أماني ألمانيا، فكانت النزعة الرومانتيكية عريقة وحية، إذ تميزت رومانتيكيتها أكثر من أي بلد آخر بجلالها وخصوبتها. واتصفت الحقبة الأولى من الحركة الرومانتيكية الألمانية بالطابع النظري نوعًا، وظهر ذلك حتى في مبدعاتها الفنية.
ويضيف المؤلف: لو قارنا الأدب والموسيقى في بداية العصر الرومانتيكي سنكشف اختلافًا أساسيًا بينهما، فلقد جاءت الرومانتيكية بأدب خاضع لفلسفة جمالية وضع منهجها بالفعل قبل انتشار الحركة، ولم يتقدم الموسيقيون بمثل هذا النهج، كما أنهم لم يؤلفوا مدرسة لتحقيق ما تضمنته مثل هذه النظريات ويقول: ساعدت الأصول التي سادت ألمانيا في عصر “الانتفاضة العاصفة” على تهيئة الجو الذي ظهر فيه جوته “الشاب”، و”سثلر” الشاب وتحسم الصراع بين مطالب الإنسان الطبيعية والأوضاع والتقاليد، ولاحت غايات جديدة في الأفق، فعاش “لودفيج فان ينتهو” من “1770 – 1827” وسط هذه الحركة، وظل بها أكثر من أي فرد آخر، وكانت هي التي حملته على أعناقها.
أما عن “شوبرت” يتمثل بنوعه الباكر على أفضل وجه في بعض درر مؤلفاته المؤسيقية في السنوات “1814 – 1816” وكتب أغلب مؤلفاته الأولى لموسيقى الآلات لمجموعات الهواة الممتازة في فينا، وكثيرًا ما لاقى ترحيبًا في بيوت محبي الموسيقى، لقدرته على عزف البيانو، وتميزه في ارتجال الرقصات الفيناوية. ويروي المؤلف أن الرومانتيكية أعادت في حماستها “الاستعارة” اكتشاف “عصر المرأة”، كانت تلك أزمنة تنتقل فيها مدام “دي ستال” في سائر أنحاء أوروبا، كنبية من أنبياء الفكر، العهد الذي ارتفع فيه صوت الملكة “لويزا” في بروسيا و”الارشيد وقة صوفيا” في النمسا، في الأمور السياسية. واقتربت الراقصة “لولا مونتيز” من حكم بافاريا، كما وهبت البارونة فوق “كرودينز” حياتها داعية لمذهب التقوى في سائر أنحاء أوروبا، ساعدت على تشكيل “الحلف المقدس”.
• الموسيقى والموروث
ويذكر المؤلف: لم تظهر الموسيقى ذات البرنامج كقاعدة جمالية يبني عليها الموسيقي عمله الفني برمته، إلا في العصر التالي لـ “بيتهوفن”، وظهرت بصورة خاصة في سيمفونيات برليوز كاتجاه جديد كلية، فلقد رفع برليوز وكان في الماضي أقرب إلى النزوة العابرة إلى مبدأ أمن مبادئ البناء في التأليف الموسيقي، فتمثل سيمفونيات برليوز صراعًا مؤثرًا بين العقل والغريزة، وتعرضت مقاصده الدرامية للانحراف؛ بسبب عجزه عن التخلص من الصيغ الموروثة التي جاوزت عصرها.
ويضيف المؤلف: بدأ “ليست” حياته الفنية ترجمة المؤلفات “الأوركستراتية” إلى لغة البيانو “الآلة الجامعة”. وبزغ “ليست” كمبتكر مستقل، فهو أول موسيقي أدرك بوضوح أن إنشاء أسلوب جديد لا يكفيه حتى طريقة “شوبان” الأصيلة الرائعة؛ لأن الفن الجديد المتوازي في جنايا الكلاسيكية لا يستطيع الخروج من بين أطلال الماضي، قطع صلته نهائيًا بالماضي وابتكر قواعد جمالية توائمه، ورمى “ليست” بنفسه مخلصًا في خضم هذا العالم المتحدث من الرنين. وتشهد مقطوعاته النافذة: سنوات الحجيج بالفن الجديد الذي اهتدى إليه بعد استفادته من مقطوعات غيره التي قام بإعدادها. ولنكتفي بذكر “Sposlio” أي مقطوعة واحدة من المؤلفات الرائعة العديدة في هذه المجموعة. فلقد اعتمدت هذه المقطوعة كلها على ظاهرة صوتية واحدة مجرد “تأليف” هارموني استمده “ليست” من تحليل كل من الميلودية والمصاحبات. فكان يقدم شطرًا من هذا “التأليف” تارة في جلال وتؤدة، وفي أحيان أخرى في سرعة أخاذة، وفي النهاية تجيء الأرابيسك مصنوعة من المادة نفسها مغلقة للحن في الأسطر الوسطى لجماع الهارمونيات، وعادت للظهور الفقرات الأرابيسك نفسها في إحدى مقطوعات “دبيوسي” الباكرة للبيانو، فأثبت ذلك استمرار عفو الأسلوب ودور “ليست” في إنشاء الموسيقى الحديثة.
ويتناول المؤلف في هذا الجزء من الكتاب، الحديث عن الممارسة الموسيقية في القرن التاسع عشر قائلًا: يعزي الوضع المشوش في الثلث الأول من القرن التاسع عشر في أداء المجموعات الموسيقية إلى ما طرأ من تغير في الجهاز الموسيقي الذي أعد به العازفون وقادة الأوركسترا. وخلال الفترة المشوشة هذه انتشرت البرامج الهابطة، وشاع الغرف بغير اكتراث، وأدى ضعف سيطرة القادة على أوركسترات الهواة العديدة، التي شجعت بوجودها المؤلفات الأوركسترالية الوفيرة في المدرسة الكلاسيكية، وإلى ظهور حفلات يسودها الإهمال، أغلبها بلا تجارب “برونات”.
أما عن الفكر الموسيقي في القرن التاسع عشر، فيقول: كانت طريقة تدريس التأليف الموسيقي في القرن التاسع عشر، مماثلة لما يتبع في مراسم التعليم الفنون الجميلة، أي الاعتماد على الممارسة الفعلية تحت إشراف الأساتذة. فكانت كتب الدراسة الكونترا بنبطية المماثلة لتلك التي ألفها فوكس وماريتني في المراجع التي يرجع إلى الأساتذة ذوي الدراية الكاملة بفنهم، كما ساعدت الكتب المختلفة على زيادة قدرة المطلع على عزف المصاحبات أكثر من مساعدتها على تعليمه في التأليف الموسيقي.
وفي ختام الكتاب، يقول المؤلف: سوف تشرق موسيقى القرن الجديد من حضارة تقسم بالديمقراطية، وأن صح القول بأنها قد طلعت بالفعل على العالم الجديد والبلدان القائمة على حافة أوروبا من جراء طاقات لم تتعرض للفساد ولم تكن قد ظهرت بعد، وهي بلدان كانت حتى ذلك العهد خارج نطاق رقعة الحضارة الأوروبية. وفي نهاية العصر الرومانتيكي، عندما رأى الفعل الذي أحدثته الهيئة في مأزق ميتوس منه، ظهر أول رسل لهذا الفن، وأحدثت حيويتهم الوحشية، وقوتهم المفصلة بلا لجام فرعًا في العالم الواهن العزيمة.
وتنبأ بمقدم هؤلاء الرسل وبزوغ حضارة جديدة في وسط هذه المدينة الجديدة في القرن العشرين أحد الشخصيات القومية المرموقة في الجيلين السابقين، أعني: فاجنر الذي قال: “ليس بوسعي إلا أن أدرك أن أيًا من جديد يولد من الحياة، لا بد أن تتقدم له بالعون الخلاق قوة أخرى: قوة تتكشف في شكل إرادة واعية لهذا الفن”.
كتاب “الموسيقى في الحضارة الغربية” لمؤلفه بول هنري لانج قام بترجمته للغة العربية د. أحمد حمدي محمود، وصدر ضمن مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في 340 صفحة من القطع الكبير.
_______
*(خدمة وكالة الصحافة العربية)