* ممدوح المهيني
يرفض الكاتب الأميركي الشهير روبرت رايت (المولود عام 1957) إصرار البعض على إطلاق صفة «العالِم» عليه، ويفضل لقب «الصحافي». لكنه في حقيقة الأمر يجمع بين أفضل ما يميز كلا الحقلين؛ البحث الجاد للعالم، والأسلوب الرشيق والسلس للصحافي. كتبه تغوص في قضايا علمية وتاريخية ودينية معقدة، ولكنه قادر على أن يكتب بأسلوب سهل وممتع وممزوج بالطرافة في بعض الأحيان. تتصدر مؤلفاته، على الرغم من ضخامتها، قائمة أكثر الكتب مبيعا، ويعده الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون أحد أبرز الكُتّاب في العالم اليوم. ينشر رايت في أشهر المجلات والصحف الأميركية، مثل «نيويوكر» و«نيو ريببلك» وصحيفة «نيويورك تايمز»، وعدد آخر من المطبوعات. في حديثه مع «الشرق الأوسط»، كشف رايت عن سبب توقفه عن الكتابة الصحافية، وموقفه من تردد إدارة أوباما في التدخل بسوريا، كما تطرق إلى موقفه النقدي من الحركة المعادية للأديان، وحزمة أخرى من القضايا:
* الفكرة الرئيسة لكتابك الأخير تركز على قدرة الأديان التوحيدية على التعايش والتطور خلال قرون طويلة. بمعنى آخر، هذه الأديان لديها الديناميكية اللازمة للتحول حسب الظروف، وهذا ما مكّنها من البقاء والتعايش فيما بينها. أعرف أن الفكرة أكثر تعقيدا وتشعبا من ذلك، ولكن هل يمكن أن تشرحها للقارئ الذي لم يقرأ كتابك؟
– بداية، هناك فكرة تسمعها كثيرا في أميركا تقول إن الأديان هي مصدر الصدامات. ولكن في الحقيقة حتى عندما ترى بعض الفرق الدينية تتقاتل فيما بينها، فإن الأديان التي يحاربون باسمها ليست هي السبب أو المصدر الحقيقي للنزاع. هناك أسباب غير ظاهرة يعود لها أصل الخلاف. مثلا الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يبدو وكأنه نزاع بين المسلمين واليهود، ولكن السبب لا علاقة له بالدين، ولكن السبب يعود للنزاع على الأرض.. ما أود قوله هو أن الدين ليس سببا للنزاعات، ولكن يمكن أن يلعب دورا مهما في حل هذه النزاعات. إذا دفعت ظروف معينة تصورا يقول إن التعايش هو الذي سيفيد الأطراف المتنازعة، سيؤدي ذلك إلى بزوغ أفكار وتصورات دينية تدعو للتسامح والتعايش، وتشجع أيضا على تفهم الآخر. يمكن أن نرى ذلك بوضوح في بداية الإسلام، الذي ساهم في توحيد القبائل المتنازعة، ونرى شيئا من ذلك في التاريخ الحديث.
* التعصب الطائفي في منطقة الشرق الأوسط الذي يصل إلى حد التقاتل من أهم القضايا التي تقلق الكثيرين. كيف يمكن أن نراها من خلال ما طرحته في كتابك؟ هل هناك سبب آخر غير الكراهية هو الذي يجعلهم غير قادرين على التعايش؟
– لست خبيرا في منطقة الشرق الأوسط، ولكن دعني أقل لك إنه عندما تشعر الأقلية بأن الأغلبية الحاكمة لا تحترم حقوقها ووجودها، تبدأ المشكلات المغلفة بغلاف ديني أو قومي أو أي غلاف كان. نرى ذلك يحدث في العراق وأماكن أخرى في العالم. ما أود قوله إن الأديان يتم توظيفها، ولكنها ليست المصدر الأساسي للنزاع. جعل المتنازعين يعيشون ويتعاونون فيما بينهم يظل بحد ذاته تحديا كبيرا، ولكن الأديان ليست هي السبب الحقيقي لصراعهم.
* ماذا عن الإصلاح الديني؟ هناك مثلا كثير من الكتب تُنشر سنويا في العالم العربي حول أهمية تحقيق الإصلاح الديني الذي يسهّل اندماج المسلمين في الحداثة وتبني قيمها السائدة في عالم اليوم؟
– بشكل عام، كلما تتطور المجتمعات تتطور قيمها. نرى ذلك بوضوح في أميركا مثلا، حيث تغيرت كثير من القيم خلال الـ60 عاما الماضية، خصوصا فيما يتعلق بحقوق المرأة أو السود. أعتقد أن المجتمعات الإسلامية التي انكشفت مؤخرا على الحداثة ستمضي أيضا في هذه الاتجاه التحديثي. هذا شيء جيد، ولكن التحدي الحقيقي هو كيف ستقوم به. هذا هو السؤال المهم. كيف يمكن تغيير مجتمعات إسلامية كانت أم غير إسلامية تعرضت في العقود الأخيرة لمؤثرات التحديث؟ أعتقد إلى حد ما أن الإصرار الغربي على تغيير العالم الإسلامي يؤدي أحيانا إلى ردات فعل عكسية.
* هل لديك موقف نقدي للحركة المعادية للأديان التي يقودها شخصيات شهيرة، مثل ريتشارد دوكينز أو سام هاريس؟
– هذا صحيح. هذا الحركة تقول إن الأديان خارج الزمان وليست قادرة على البقاء. وهذا غير صحيح، هناك كثير من العلماء ممن يؤمنون بنظرية التطور مثلا ويحافظون على إيمانهم الديني. الأديان أيضا أثبتت قدرة كبيرة على البقاء. ولكن نقطة خلافي الأساسية هو أنهم يريدون أن يسود العلم، ولكنهم يخيفون الناس منه بهجومهم على الأديان، الناس يشعرون بأنهم مهددون من تصور هذا الحركة التي تقول لهم بشكل قطعي: إما العلم أو الدين. المصدر الأساسي الذي يحرضهم على نشر أفكارهم هو اعتقادهم الخاطئ أن الدين هو المصدر الأساسي للنزاعات والمشكلات. يفكرون: إذا لم يكن هناك أديان، فإن المشكلات ستختفي. وهذا غير صحيح. تخيل مثلا أن الفلسطينيين والإسرائيليين لديهم الدين نفسه، هل سيتوقف نزاعهم حول الأرض؟! بالمناسبة، تحدثت مع دوكينز مؤخرا ويبدو أكثر تفهما لهذه القضية. لو انخفضت النبرة الحادة لهذه الحركة، فسيكون ذلك مفيدا للجميع. إنهم يقومون بهزيمة هدفهم الذي يسعون إليه.
* نشرت كثيرا من المقالات عن النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. ما رؤيتك له في الوقت الحالي؟
– بصراحة، أنا لست متفائلا بشأن هذا الصراع. نحن في أميركا تكلمنا كثيرا عن حل الدولتين، ولكن مع زيادة عدد المستوطنات يبدو أن هذا الحل لم يعد ممكنا. من الصعب على إسرائيل دفع المستوطنين للمغادرة، والحكومة الإسرائيلية غير متحمسة لفعل ذلك. شخص مثلي يفكر بأن حل الدولة هو الوحيد الممكن، ولكنه سيكون تحديا صعبا على الجميع.
* هذا يجعلني أفكر في كتابك الآخر «منطق المصير الإنساني» الذي تجادل فيه طويلا بأن المتنازعين سيصلون لحلول وتسويات إذا شعروا أنهم سيستفيدون من الحل المطروح. ولكن يبدو أنها لا تعمل فيما يخص هذا الصراع الطويل.
– أعتقد أنه سيكون هناك حل على المدى الطويل. إذا شعر الطرفان بأنهما سيربحان من الحل، سيتوصلان إلى تسوية معينة، والعكس بالعكس صحيح. الوضع يزداد سوءا كلما فكر أحدهم أنه يجب أن يربح بينما يخسر الطرف الآخر. للأسف هناك، من الطرفين، من ينطلق من هذه الفكرة التي تقول: فوزي يعني خسارتك.
* في كتابك هذا تقول إن هذه النظرية هي المحرك الرئيس للتاريخ. العالم أصبح الآن أكثر انفتاحا وتقاربا، وهناك تبادل واسع للأفكار، ولا حدود للسفر. كل ذلك يحدث لأن جميع الأطراف تشعر بأنها رابحة ومستفيدة من هذه التحول؟
– أعتقد أن التاريخ يثبت أن مزيدا من الناس ينضمون إلى هذا الاتجاه الذي تعبر عنه فكرة الكتاب، التي تقول إن الناس يذهبون في اتجاه العولمة والتقارب أكثر لأنهم يستفيدون في نهاية المطاف. مثلا الولايات المتحدة تربطها كثير من العلاقات حول العالم التي تعتمد هذا التوجه. ولكن لا يجب أن نعتقد أن الناس يدركون هذا الفكرة الأساسية، ويتصرفون بحكمة بناء عليها. هذه القوة، باعتقادي، المحرك الأساسي للتاريخ منذ القدم، حتى وصلنا إلى العالم الذي نعيشه اليوم. ولكن هذا لا يعني أحيانا أنه لا توجد تلك المواقف التي تصبح نظرية «فوزي يعني خسارتك»، وحينها ندخل في أزمات وصراعات، مثلما يحدث بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
* أشرت في كتابك إلى نقطة مهمة، وهي أن الطبيعة البشرية تنافسية، ولكنها تعاونية في الوقت ذاته.
– هذا صحيح، وهذه الصفات شكلت التاريخ الإنساني، ونرى ذلك في أقدم المجتمعات التي تتنافس في الصيد مثلا، ولكنها تضطر للتعاون أيضا. التنافس ليس بالضرورة سيئا إذا ما تم في ظروف سلمية وعادلة. في الواقع سيفضي إلى كثير من التطور على مستويات متعددة. جزء من الطبيعة الإنسانية يحركها التنافس، ولكن إذا خرج عن الإطار المدني والعادل، قد يتحول إلى عنف، وهنا الخطورة.
* أعلنت مؤخرا أنك توقفت عن الكتابة في مجلة «أتلانتيك». أحد مبرراتك كانت أنك تعبت من الاستيقاظ كل يوم، ومحاولة تشكيل فكرة في رأسك للكتابة. هل تعتقد هذا الوقت الصحيح للتوقف؟
– السبب الأساسي هو أني أرغب في إنهاء كتابي الجديد المرتبط بشكل ما بفكرة توقفي. بمعنى أن الكتاب حول كيف يقوم الإنسان أحيانا بخداع نفسه، وإعطاء أحكام غير عادلة. كما يتناول الكتاب فكرة كيف يقنع الإنسان نفسه بأنه على صواب، بينما الطرف الآخر على خطأ. الكتاب يتطرق إلى كثير من القضايا التي تحدثنا عنها، وأهمها كيف يستخدم الإنسان الخدع النفسية التي تمنعه من التعايش والتعاون مع الآخرين أو إدراك فكرة الربح والخسارة التي تحدثت عنها. توقفت لرغبتي بإنهاء هذا الكتاب، ولأني شعرت، كما ذكرت في المقال الأخير، بالملل من ترديد الأفكار ذاتها. ولكن من المؤكد أني سأعود مجددا للكتابة، وقد أركز أكثر على المجال السياسي.
الآن نرى أصحاب الأفكار التجييشية العاطفية هم الأكثر شعبية في التلفزيون، أو مواقع التواصل الاجتماعي، ويستطيعون أن يؤثروا على عدد أكبر من الناس، بينما أصحاب الأفكار المهمة مجهولون ومتوارون.
هذه المشكلة دائما موجودة، حتى قبل مواقع التواصل الاجتماعي. الرسائل المبسطة السهلة تنتشر بسرعة بين الناس. من السهل أن تنشر الخوف في قلوب الناس لأسباب مختلفة. من العسير لصوت العقل أن يُسمع. هكذا كان الحال منذ وقت طويل، ولكن هذا هو الصراع الذي نخوضه.
* ما رأيك حيال تردد إدارة أوباما في التدخل بسوريا؟
– أعتقد أن أوباما وصل إلى الرئاسة، وفي نيته أن لا يدخل في أي حرب جديدة. فيما يخص سوريا، كان متخوفا من أن تسليح المتمردين سيسحب أميركا إلى حرب أخرى مجددا. أوباما أيضا كان يفضل النموذج الليبي الذي أطاح بالقذاقي بسرعة، ولكن في سوريا الوضع أعقد كثيرا. نعرف أن الموقف الأميركي تغير جزئيا في المرحلة الماضية، ومن الواضح أن إدارة أوباما ستنتهي إلى مد المتمردين بالسلاح.
* كتابك الأخير عن العقل البوذي؛ لماذا هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات؟
– أحد الأسباب هو أن الجانب التأملي في البوذية منتشر في أميركا، وأنا شخصيا مهتم بهذا الموضوع، وأنا أقوم بتدريبات التأمل كل صباح. أعتقد أيضا أن التأمل طريق جيد ليجعل صوت العقل يسود في عقل الفرد نفسه. سيتغلب هذا الصوت على أصوات أخرى تتنافس في عقل الإنسان، مثل صوت الخوف أو صوت الكراهية أو الحسد. أعتقد أنه أيضا تدريب روحي ليس محصورا في دين معين.
* الرئيس السابق بيل كلينتون معجب كثيرا بكتبك. أذكر أنه أثنى عليك كثيرا في أحد خطاباته؟
– هو كريم في الإطراء على كتبي وزاد من شهرتها، خصوصا كتابي «منطق المصير الإنساني». إنه ينسجم مع رؤيته التي تشجع على التعاون والتعايش والاندماج.
* هل التقيته؟
– نعم، التقيته قبل سنوات، وتحدثنا لبعض الوقت.
________
(الشرق الأوسط)