* عقل العويط
لا سبب لهذا المقال، ولا مناسبة. بل نعم. فالكتابة هي السبب، وهي المناسبة. وقد رأيتُ متأخراً – يا لقلّة الانتباه – أن العبارة، عبارة “أهل القلم”، تذهل اللبّ، وتسرقه، وتستحقّ الأسباب والمناسبات كلّها. فليس علينا سوى أن نتأمّل في حقيقتها: للقلم عائلةٌ خالدة، راسخة، عتيقة، متجدّدة، معشبة، يانعة، فتية، ومستقبلية. وهي من حبرٍ وبياضٍ وافتراضٍ وهواءٍ وتخييلٍ وأهلٍ وأقاربَ وأصحابٍ وخلاّنٍ وعشّاقٍ ومريدين. فأنعِم وأكرِم.
أقول لنفسي وللجميع: هنا الأهل، أهل القلم، كُثُر، هناك أيضاً، وفي الهنالك البعيد البعيد: هم الأهل المعنويون والحسيون على السواء، المعلومون والمجهولون، المرئيون والهيوليون. هكذا، لا يمكن أن يصير القلم يتيماً، وإن مُنجباً ذاته بذاته. فهو لن يتشرّد. ولن يحتاج إلى سقف، ولا إلى لجوء. اطمئِنّوا. مثل هذا المصير لن يواجهه القلم ها هنا، والآن. وهو لن ينام في عراء، ولا على ضيم، في أيّامنا على الأقل، وفي أزمنة اليأس المتكالبة. إنْ ذلك سوى عهدٍ نقطعه على أقلامنا، حتى الدمعة الأخيرة من الحبر المادي والافتراضي الأثير.
“أهل القلم”: خذوا العبارة بحرفيتها، وبخصوصيتها الدلالية. بل خذوها كما تشاؤون. فلا أحلى، ولا أعزّ، ولا أكرم. لستُ أدري، كيف كنا نعبر بها قبل الآن بدون انتباه، وكيف كنا، كمرتا، كثيري المشاغل والاهتمامات بأمور أقلّ أهميةً وقيمةً بالتأكيد. الآن، ربما يجدر بنا أن نعتذر عن كثرة الطيش وقلة الانتباه. وها نحن نفعل.
إنها “جمعية أهل القلم”، وهي أشهر من نار على علم المدرسة الأدبية اللبنانية ابتداء من أوائل الخمسينات في القرن الفائت. جمعت تحت سقفها كبار أدباء تلك المرحلة وناشطاتها وناشطيها، في مقدمهم صلاح لبكي الذي تسلم رئاستها وكان لولب عملها، إلى جانب فؤاد أفرام البستاني ورئيف خوري وميشال أسمر وسعيد تقي الدين وتقي الدين الصلح وإدوار حنين واملي فارس ابرهيم وإنعام الصغير وأحمد مكي وهكتور خلاط ونقولا بسترس وأميل الخوري حرب وفاضل سعيد عقل والياس زخريا وخليل الجر ومحمد البعلبكي وصلاح الأسير وأبو الحنّ (فؤاد حداد) وأحمد أبو سعد وسواهم. إلى أن آلت إلى انقسامات التشرذم والأفول بعد رحيل صاحب “لبنان الشاعر”. وإذا كنا قد مررنا بها طويلاً مرور الكرام، فإن أوان التوقف عندها قد حان، ولو قليلاً، استبصاراً لدورها ومكانتها وفاعلية “أهلها”، والعاملين فيها، بالتقاطع والتزامن مع نشاط “الندوة اللبنانية” ومؤسسها ميشال أسمر. زميلنا جان داية، يتولّى هذه المهمة، في هذا العدد، على عادته في التوثيق والتأريخ وإلقاء الضوء، تاركين المجال مفتوحاً أمام المساهمات التحليلية المحتملة.
أقول القلم وأهله، وأعني الكتابة مطلقاً. بل الكتابة الأدبية. حفراً في العدم الخلاّق، وصولاً إلى النسغ. ففي صحراء هذا العدم بالذات، ثمة دائماً رحمٌ خفيّة مخصبة، وثمة منيٌّ، ومياهٌ ليسبح فيها الجنين المتكوّن بذاته، النامي بذاته، والمولود بذاته أيضاً.
وعليه، لن يصاب قلمٌ باليأس، وإنْ متوجّعاً. وجعُهُ سبيله إلى البقاء. فكلما اشتدّ عطشٌ يائسٌ، واستبدّ مدلهمٌّ من الليل، رأينا الكتابة تشقّ طريقها إلى البلل، وهي لن تتوانى عن فعل الشيء نفسه، احتلاماً أو طلباً لفجر. حالةٌ هو القلم. حالةٌ هي الكتابة. حالةٌ هم الأهل. فمَن يستطيع أن يخمد سعيرهم، وتجوالهم المضني في براري التخييل والمشاعر والكلمات؟! مَن يستطيع أن يمنع التلوّي تحت شهقة الجمر؟! لا شيء. لا أحد.
بئس القائل بسقوط الكتابة. لكنْ، لنكن واقعيين ومنطقيين: ربما لم تعد عبارةٌ من مثل عبارة “أهل القلم” تجد صدىً عميقاً في النفوس، مذ رأى بعضهم أن الكتابة قد وقعت فريسةً في براثن الافتراضات العمياء. فهل سقطت الكتابة حقاً، أم شُبِّه للبعض منّا أنها أصبحت فعلاً ميّالاً إلى التآكل والانقراض، بسببٍ من هواجس العصر وترّهات أهله؟
شخصياً، كم يصعب عليَّ أن آخذ بقولٍ كهذا، وأن أقتنع به، أو أن أيأس من جرّائه. لا. لم تسقط الكتابة. ما من شيء يستطيع أن يُسقِطها، ولا الدهر نفسه. الكتابة حياةٌ، كالحياة نفسها، كُتِبت أم لم تُكتَب. عيشت أم لا. هكذا لن يعتريها موتٌ، وإن ارفضّ زوّارها والجلاّس والزهّاد، أو انصرف كلٌّ منهم إلى موضعه، غير آبه بما يمكن أن ينشأ عن الحال هذه من قحطٍ أو مساء.
“الأهل” الذين اتخذوا “القلم” ابناً، لن يبيتوا يتامى، وأراني أقول: لن ينقطع نسلهم، كأنْ يصيروا بدون أبناء وأحفاد. فليس من عقمٍ ها هنا، وليس ثمة نساء عاقرات. بل حفرٌ في القعر الذي لا قعر له. فكيف يكون انتهاءٌ وجفاءٌ، وثمة بئرٌ للحبر مقيمة تحت القاع. هكذا أرى من العبث كلّ ما يقال عن استتباب الأسى، وذيوع المرارة، فاطمئِنّوا. سيظلّ للقلم مكانٌ في هذه الديار، وموضع رأس. وكذا أقول عن الأهل، الذين ثمّة مَن يريد من “قوافلهم” أن يقرأ، وثمّة مَن يريد أن يظلّ يكتب، معانَدةً وكبرياءً وتحدّياً للعدم، إلى أن تصبح القراءة والكتابة فعلَ حياةٍ في غياب الحياة. قتيلةٌ حقاً، هي هذه الحياة المسروقة، المغتصَبة، المضرَّجة، المعروضة للبيع والتعهير في أسواق النخاسة. لكن هذه الحياة لا يمكن أن تموت. فما من وحشٍ في مقدوره أن يتغلب على وحش الحياة، وإن يكن هو العدم الخلاّق.
لقد أخذوا كلّ شيء من أهل القلم. هذا صحيح. لم يعد في أيدي هؤلاء سوى أن يبسطوا أيديهم في الفراغ ليسقطوا وإياها في العتمة، وفي العدم اليائس من كونه عدماً. قد لا يكون في أيدي هؤلاء أن يغيّروا كثيراً في المعادلة العدمية القائمة. فليكن. العدم سيستجيب، ووحده الحبر يمكنه أن يجعله يستجيب. سنظلّ نريد أن نقنع أنفسنا بأننا نحرّك شيئاً راكداً في مياه هذا العدم، وبأننا نربك هذا الشيء، ونخربطه، ونعدّل موازينه وكيمياءه، إلى أن يستجيب. وهو سيستجيب، ولا بدّ.
____________
*شاعر وناقد وصحافيّ وأستاذ جامعي من لبنان
( جريدة النهار)