*علي السوداني
وإنَّ ربّكَ لا يترك حِملاً مطروحاً فوق الأرض . من تلك الحوائج الثقيلة ، نشفان المخّ ويباس الذاكرة ، وضنكة المزاج ، وعطب الروح الذي يجعلك تصفنُ عشر ساعات ، قدّام شاشة الكومبيوتر البيضاء – راح زمان الورقة البيضاء وقلم الرصاص المقطوط بالأسنان – من دون أن تلدَ جملةً أو بعضها . ومن توصيف ربّ السماوات والأرض وما بينهما ، الذي جئنا عليه في أوّل المكتوب المبروك هذا ، فلقد طيّرت إلينا ، القاصّة العمونية البديعة ، إنصاف قلعجي ، رسالة ألكترونية رحيمة من سلالة رحمة ونعمة ، أظنها من غير إثمٍ ، ستأكل ربع حروف هذا المكتوب ، وما تبقى ، سوف أتدبّره من لفائف ومعتقات الدماغ ، ومن الدربة وما تراكمَ وتتلتلَ . تنقل إنصاف ، من حكاية شافتها أو سمعتها أو قرأتها ، هذه الزبدة المدهشة : في مدينه البندقية الطليانية ، وفي ناحية من نواحيها النائية ، وبينما كنّا نحتسي قهوتنا في أحد المقاهي ، جلس إلى جانبنا شخص وقال للنادل : إثنان قهوة من فضلك ، واحد منهما على الحائط ، فأحضر النادل له فنجان قهوة ، فشربه صاحبنا ، لكنه دفع ثمن فنجانين . وعندما خرج الرجل ، قام النادل بتثبيت ورقة على الحائط ، مكتوب عليها بحرفٍ واضح : فنجان قهوة واحد . بعد دقائق من الموقعة الملتبسة حدّ اللحظة ، دخل شخصان ، وطلبا ثلاثة فناجين قهوة ، واحداً منها على الحائط . فأحضر النادل البشوش لهما فنجانين فقط ، فشرباهما ودفعا ثمن ثلاثة فناجين ، وخرجا راضين مرضيّين . وفي ظهيرة فائضة ثانيةٍ ، كنا نريح ركابنا بنفس المقهى ، إذ دلف شخص ، يبدو عليه الفقر والعوز ، فقال للنادل : أريد فنجان قهوة من على الحائط رجاءً .أحضر له النادل السعيد ، فنجان القهوة ، صحبة ابتسامة ورضا ، فشربه وخرج من غير ان يدفع ثمنه . وحيث توارى الكائن الفقير ، ذهب النادل إلى الحائط ، وأنزل منه ، واحدة من الأوراق المعلقة ، ورماها في المزبلة . ألله ألله على جمال هذه الفكرة الآدمية المذهلة . ألله ألله على أصدقائي الفقراء ، إذ تهبط عليهم قهوتهم المجانية ، من على حيطان البركة ، فيحتسونها من دون ذرّة مهانة ، فدافع سعر فنجان القهوة ، قد ذهب ، والنادل الذي يسقيها ، إنما يصنع ذلك ، من دون منّة ولا تكشيرة ، ولا عين ضيقة . بودّي الليلة أن أغسل مكتوبي الكاسر ، بسطلة من سواخن الدمع . سأهبط إلى قاع المدينة ظهيرة الغد ، فأشتري لفّتَي فلافل ، واحدة منهما على الحائط . قندرة على الحائط . باكيت أسبرين على الحائط . قميص على الحائط . كتاب على الحائط . مقعد سينما على الحائط . كيلو طماطة على الحائط . جرّة غاز على الحائط . رحلة مدرسية على الحائط . أربع تفّاحات على الحائط . علبة حليب على الحائط . بطّانية على الحائط . محبس خطوبة على الحائط . خلعة سنّ على الحائط . رغيف خبز على الحائط . نفر كباب على الحائط . بدلة عرس على الحائط . مركوب أبو الإصبع على الحائط . لعّابة صبر على الحائط . عشرة أمبيرات ألكترونية على الحائط . مقعد جامعيّ على الحائط . نصف سقف على الحائط . مبيت ليلة على الحائط . كرسي كساح على الحائط . بخّاخ فنتولين على الحائط . غسلة كِلية على الحائط . مدفأة على الحائط . مبرّدة على الحائط . دشداشة على الحائط . ثواب على الحائط . زكاة على الحائط . قبر على الحائط . مقلّمة أظافر على الحائط . صابونة على الحائط . ليفة على الحائط . كأس على الحائط . كشفيّة علّة على الحائط . يوم محامٍ على الحائط . ولكي لا تذهب ليلتكم معي ، سدى وهباء ، ومن دون لطم وعويل وعياط وشقّ زياق ، وتنتيف لحية ، أدعوكم صبحية الغد ، إلى هجرة جماعية ، صوب مبنى مفوضية شؤون وشجون الأوادم الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقّ ، ومبناها ومهواها القائم في ضاحية ” دير غبار ” الجميلة ، حيث ينزرع ببابها ، جدار عالٍ عملاق ، علَّ الربَّ ينظر إلى واحدكم المسلول من قوة الشوق ، فتتنزل على رأسه ، ورقة بشارة بيضاء ، مرفرفة مثل وشالة ياسمين ، مخطوط عليها بحرفٍ راسخٍ مبين :
وطنٌ على الحائط .