* أسماء هند طنقور
حُكِي أنّه في مكان ما وفي زمان ما، كان ثمة امرأة دفعت رجلاً نحو الجنون وامرأة أخرى أعادته إلى الصواب. لا يكاد أحد يجهل هذا الدافع الذي تمّ اختياره كبداية لـ«الليالي» والذي سيشار إليه في كلّ ليلة إلى أن تحلّ الليلة الأولى بعد الألف، وينجح أخيراً كمين حبّ المرأة الأخرى في تخليص الملك المجنون من دوّامة الكراهية القاتلة التي كانت قد أوقعته فيها خيانة زوجته الملكة. إنّه أحد أشهر وأجمل الأعمال الأدبيّة العربيّة بل وأيضاً العالميّة، وهو يحظى اليوم بدراسة جديدة صدرت مؤخّراً في كتاب المؤرّخ والمستشرق الفرنسي جان كلود غارسين (Jean-Claude Garcin) بعنوان «من أجل قراءة تاريخيّة لـ«ألف ليلة وليلة»»، عن دار «آكت سود» الفرنسيّة وقد كتب مقدّمته المستعرب الشهير أندريه ميكال (André Miquel).
كلمات العنوان تشير إلى أنّ المؤلّف سعى إلى وضع «الليالي» في سياقها التاريخيّ الخاصّ، أي في مكانها وزمنها. نعم ولكن، ماذا لو تعدّدت الأمكنة والأزمنة كما هي الحال بالنسبة لـ«الليالي»؟ ما موقف المؤرّخ من موضوع ينتمي إلى المخيال وإلى الثقافة الشعبيّة؟ كيف يتعامل مع موضوع كهذا وكيف يلِمّ به؟ ردّاً على هذه التساؤلات، يلقي جان كلود غارسين في دراسته هذه نظرة تاريخيّة نادرة الجودة والجديّة لا على قصص «ألف ليلة وليلة» جملةً وإنّما على طبعة بولاق للكتاب والتي يعود نشرها إلى عام 1835، معتبراً أنّها الطبعة الوحيدة التي يمكن المؤرّخ أن يستند إليها «كموضوع تاريخيّ ينحدر من الوسط المصريّ»، وهذا على الرغم ممّا جاء في هذه الطبعة من «أخطاء مطبعيّة وغيرها من نقائص».
يقودنا غارسين، بدايةً، إلى أجواء مطبعة بولاق في ثلاثينيات القرن التاسع عشر حيث يبدو أنّ نشاط المطبعة كان يدور حول التراجم المكثّفة لكتب مهنيّة نقلت من اللغة الفرنسيّة خاصّة، بالإضافة إلى كتب مدرسيّة لقواعد اللغة وأخرى دينيّة. لكنّ الفترة تميّزت أيضاً بارتفاع نسبة بيع الكتب التي تروي الحكايات والطرائف وفي مقدّمتها كتاب «ألف ليلة وليلة»، عام 1835، ما شجّع المطبعة أن تنشر، عام 1836، «كتاب كليلة ودمنة».
في موازاة ذلك، يحدّثنا غارسين عن الذي سمّاه «مؤلّف بولاق» وهو شيخ قاهريّ لا نعرف له اسماً، ويمكن أن يكون قد مات حوالي 1781، وورد ذكره في «يوميّات سفر» التي تحمل توقيع الرحّالة الألماني أولريش ياسبر سيتزن (Seetzen)، والتي صدرت عام 1807. يقتفي غارسين خطى الشيخ المجهول ويخبرنا أنّه هو الذي انتقى الحكايات التي تتألّف منها «الليالي» وضبط تنظيمها وتسلسلها. يتتبّع القارئ المؤرّخ في بحثه ويكتشف كيف أنجز «مؤلّف بولاق» هذا العمل ووفقاً لأيّ معايير، حوالي خمسين عاماً قبل صدور طبعة 1835.
يتناول غارسين طبعة بولاق لـ«الليالي» بالوصف والتحليل. يتابع مسار الحكايات بصرامة، متّخذاً المسافة اللازمة وكلّ الإشكال يكمن في تأريخ زمن ظهورها. وينتقد بكامل الحياد أعمال المستشرقين والمستعربين وكذلك البحّاثة العرب الذين اهتــمّوا بدراسة «الليالي».
إلى جانب ذلك، يشير غارسين إلى أهميّة وضع «ليالي» بولاق تحت مجهر الاستقراء التاريخيّ ليس فقط لتسليط الضوء على تطوّر المناخ الثقافي والفكري للمحيطَين السوري والمصري، ما بين القرن الخامس عشر والقرن الثامن عشر، بل أيضاً لتعميق معرفة تاريخ نصّ معقّد من حيث البنية والمواضيع. فحكايات «ألف ليلة وليلة» متشابكة إلى أقصى درجة، وما قام به غارسين هو أنه فكّكها انطلاقاً من محـــاولة فهم نيات «مؤلّف بولاق» ثمّ ناشِر بولاق لعام 1835، الشيخ عبد الرحمن الصفتي الشــرقاوي. ولقد انتهى غارسين إلى «وضع تأريخ جديد للنصــوص» التي استقرأها وقارنــها خلال الست سنوات الأخيرة، وإلى اقتراح «شرح مخــتلف للهدف الذي كان يتبعه من تكلــّف بجمعها». وهنا، بلا شكّ، تكمن أصالة هذا العــمل الفــريد من نوعه.
على غرار أستاذه المؤرّخ الشهير كلود كاهين (Claude Cahen)، يبرهن هنا جان كلود غارسين، بعد أن كرّس حياته لتاريخ العالم الإسلامي في العصور الوسطى، على معرفته الدقيقة بالمصادر والمراجع وسعته الكبيرة في الاطلاع عليها. قد تثير الخلاصات التي توصّل إليها غارسين، بصفته مؤرّخاً، معارضة علماء الأدب أو تحفّظهم. ذلك أنّ ما وصل إليه يتناقض حتماً مع الصورة التي وُضِعت لـ«الليالي» منذ النصف الأوّل من القرن العشرين إلى اليوم. لا بدّ إذاً على القارئ أن يقتنع بأنّ هذا الكتاب لم يسعَ إلى التجديد حبّاً بالتجديد، وإنّما حاول بقدر المستطاع أن يبحث عمّا هو قريب من الحقيقة التاريخيّة التي يتعذّر التقاطها.
«من أجل قراءة تاريخيّة لـ«ألف ليلة وليلة»» لا يقلّل أبداً من أدبيّة «الليالي» ولا ينفيها، لكنّه يساهم في ردم الهوّة بين الآداب والتــاريخ من أجل إثراء حقل معرفتنــا لماضي نــصّ يستحقّ، ككلّ النــصوص التي تنتمي إلى التراث الإنســاني، أن تتّسع آفاقه بدل أن تنحصر داخل فضاء فكريّ واحد.
________
*كاتبة من الجزائر
(السفير)