هل نكتب أكثر ممّا نقرأ.. ؟


محمّد محمّد الخطّابي*- غرناطة

(ثقافات)

إشكالية مثيرة كانت باستمرار حديث الكتّاب، والمبدعين، والنقّاد فى مختلف معارض ” الكتاب” التي شهدتها وتشهدها هذه الأيام بعض العواصم العربية ، وفى مختلف اللقاءات والمحافل، والمنتديات الأدبية للأجيال المتعاقبة ، سال لها وبها ومن أجلها مداد غزير وهي تدور حول التساؤل التالي : كتّابنا الشباب هل هم يكتبون أكثر ممّا يقرأون..؟ ما فتئ هذا السؤال يراود مختلف الأوساط الأدبية الشّابة منها على وجه الخصوص فى كلّ وقت وحين ، أيّ عادة ما ينصبّ هذا التساؤل فى الغالب على هؤلاء الذين ما زالوا يخطون العتبات الأولى فى عالم القراءة والكتابة والأدب والخلق والإبداع ، فعالم الكتابة بحر زاخر ، لا قعر ولا قرار، بعض هؤلاء الكتّاب الجدد يرمون أو يرتمون فوق لججه ، ويغوصون فى أعماقه باحثين عن درره وصدفاته، وعن لآلئه ونفائسه، وقد يصعب أو يستعصي عليهم فيما بعد العودة بسلام إلى برّ الأمان ، وقد يصبحون بعد ذلك عرضة للمحاسبة والمتابعة من طرف القرّاء والنقّاد على حدّ سواء !.
الكتابة كياسة، وسياسة ، وفنّ ، وتمرّس، وصنعة، وصبر، وتحمّل ، وأناة ، ثمّ هي بعد ذلك هي خلق معاناة وإبداع ، وعطاء ، وقد لا يتوفّرالكثير من الكتّاب الجدد على هذه الصّفات التي ينبغي أن يتسلّح بها هؤلاء الذين ما زالوا حديثي العهد فى خوض غمار تجربة الكتابة والإبداع . 
تنعت بعض الأجيال الجديدة من “الكتّاب الشّباب” من طرف النقّاد أنهم ربّما يكتبون أكثر ممّا يقرأون ، وذلك نتيجة رغبتهم أو هوسهم فى الكتابة والنشرالمبكّرين . فهل تعاني أجيالنا الحاضرة كذلك من هذه الآفة مثلما عانت منها أجيال أدبية سابقة ..؟ أيّ هل تعاني هذه الأجيال حقّا من صعوبات فى نشر إبداعاتها وذيوعها وإيصالها إلى القرّاء..؟ أو بتعبير أدقّ هل يعاني هؤلاء الكتّاب الشباب من أزمة نشر أم يعانون أزمة إبداع حقيقية..؟ أي إنّما هم يعانون من أزمة قراءة وخصاص فى الإطّلاع والتحصيل ..؟.والمقصود هنا بهذه الأزمة هي الرغبة الملحّة التي تراود بعض هؤلاء الكتّاب والكاتبات ، وتدفعهم إلى الإستعجال في عملية الكتابة والنشر المتسرّعين .
الكمّ والكيف 
لا يرتاب أحد في أنّ هذه الأزمة بمفهومها الواسع هي قائمة بالفعل ، خاصّة لدى بعض المبدعين والمبدعات ممّن اكتملت لديهم عناصر النضج الفنّي، وتوفّرت عندهم مؤهّلات النشر ، مع ذلك ما فتئ هؤلاء وأولئك يعانون ويواجهون أزمة نشر حقيقية، وما انفكّت الشكوك والتخوّفات تخامر مختلف الجهات التي تعنى بالنشر وتسويق الكتاب وترويجه فى مختلف البلدان العربية فى مساندتهم وتقديم الدّعم لتحقيق أحلامهم أو بلوغ مأربهم . الشباب دائم الحماسة والاندفاع، سريع السّعي نحو الشهرة والذيوع المبكّرين. وهو قد يجعل من ذلك معيارا أو مقياسا لمعرفة نفسه من خلال بواكير عطاءاته وإنتاجاته الأولى. وقد يفوت بعضهم أنّ العبرة ليست في ” الكمّ المهلهل” الذي ينتجه أو يقدّمه هذا الكاتب أو ذاك من أيّ نوع، بل إنّ العبرة الحقيقية تكمن في “الكيف الجيّد” الذي تجود به قريحة هذا الكاتب أو سواه، والأمثلة على ذلك لا حصر لها في تاريخ الخلق الأدبي فى عالمنا العربي وخارجه ، فكم من كاتب يصادفنا أثناء قراءاتنا المختلفة ، ويحتلّ في أنفسنا مكانة أثيرة، ومنزلة مرموقة لعمل واحد جيّد من أعماله أو عملين بذّ بهما سواه من كتّاب عصره ، ومعروف عن الكاتب المكسيكي الكبير خوان رولفو أنّ مجموع إبداعاته الأدبية لا تتجاوز الثلاثمائة صفحة ، ومع ذلك قال عنه صاحب “مائة سنة من العزلة ” غابرييل غارسيا ماركيز: ” إنّ هذه الصفحات الإبداعية القليلة قد ارتقت به إلى مصافّ سوفوكليس”، في حين أننا قد نجد كتّابا كثيرين غيره ممّن كثرت تآليفهم، وتعدّدت كتبهم ، وتنوّعت مجالات اهتماماتهم ولكنّا مع ذلك قد لا نجني من وراء “غزارتهم” هذه طائلا يذكر .
التسرّع و التأنّي
فهل حقّا يكتب بعض الكتّاب الشباب أكثر ممّا يقرأون..؟ للإجابة عن هذا السؤال لا يمكن الجزم فيه نفيا أو إيجابا، ذلك أن كلتا الحالتين قد يكون لهما وجود بيننا بالفعل.. فالكاتب المتسرّع سرعان ما يكتشف أمره من خلال كتاباته التي استعجل نشرها ، فقد تكون هذه الكتابات تفتقد إلى المقوّمات الضرورية ، وعناصر النضج التي تجعل من الإنتاج الأدبي عملا جيّدا أو على الأقل مقبولا ، وقد تصبح هذه الكتابات، فى بعض الأحيان، أشكالا بلا مضامين ذات قيمة، أو على العكس من ذلك قد تكون مضامين ذات قيمة في قوالب أدبية هشّة وضعيفة .
أما الكاتب الجادّ المتأنّي ( الدؤوب والمطّلع) فغالبا ما تظهر في كتاباته المبكّرة علامات تميّزه عن غيره، تكون بمثابة إرهاصات وأمارات تنبئ بولادة كاتب جيّد وتبشّر( سوق الكتابة والعطاء) بخير عميم. وهنا يتّضح الفرق بين الأوّل الذي لا يبذل أيّ جهد يذكر في البحث والمثابرة والتحصيل والتتبّع والإطّلاع المتواصل ، وبين الثاني الذي لا يدّخر وسعا ولا يألُ جهدا من أجل اقتفاء بلا هوادة و لا وهن خطى الفكر والإبداع في كل مكان داخل وطنه وخارجه ، أيّ أنّه يتتبّع ويقرأ ويهضم كذلك باستمرار كل ّ ما ينشر في الثقافات الأجنبية الأخرى من جيّد وجديد الأعمال الإبداعية المكتوبة وأنجحها فى مختلف اللغات ومن مختلف الأجناس والأعراق، ويغذّي كتاباته وإبداعاته وبضاعته الفكرية قبل كل شئ بالتراث الذي لا غنى له عنه.
هوس بعض هؤلاء الشبّان إذن هو إستعجالهم في عملية النشر،علما أنّ هذه الفرصة لن تفوتهم أبدا، أمّا الذي يمكن أن يفوتهم حقا فهو فرصة إطّلاعهم ، وتحصيلهم ، وقراءتهم ، وتتبّعهم لكل جديد في مجال تخصّصهم أو ميدان إهتمامهم على الأقل ، فالعالم دائم التطوّر، وعجلات قطاره لا ترحم تركض دون هوادة أو انقطاع ، وفي كل يوم يقذف إليهم الفكر الإنساني بالجديد المذهل في كل فرع من فروع المعرفة والعلم والأدب والإبداع والثقافة بوجه عام.ممّا ليس للأديب الحقّ بدّ ولا مهرب من متابعته وهضمه واقتفاء آثاره، والتسلّح بسلاحه الذي يواجه به العالم المحيط به، والذي يجعل منه غذاء روحيّا ثرّا لكتاباته وإبداعاته.
.
آخر الليل نهار
ينبغي إذن على هؤلاء أن يوجّهوا عنايتهم، وأن يركّزوا اهتمامهم في المقام الأوّل على الإطّلاع الواسع وعلى المزيد من التحصيل والتتبّع، وأن يبتلوا بشره القراءة حتى التخمة ، فكلّ إناء يضيق بما فيه إلاّ إناء العلم فإنّه يزداد إتّساعا، وعليهم أن يضعوا في اعتبارهم دائما ونصب أعينهم أنّ سبيلهم الأوّل الى الكتابة الجيّدة، والإبداع الناجح وبالتالي إلى النشروالشهرة والذيوع ، هي القراءة أوّلا، وثانيا، وثالثا ، وبذلك يضمنون لأنفسهم المكانة المرموقة التي يتوقون إليها ليصبحوا فيما بعد كتّابا معروفين .وعليهم ألا ينسوا أنّ أكبر الكتّاب عربا كانوا أم غير عرب كانوا يقضون الليل كله أو معظمه بين أكوام الكتب والمجلّدات حتى يغلبهم النوم، ويلفّهم الكرى تحت جناحيه فيبيتون بين أحضان الكراريس والقراطيس والأسفار ، وهم يعرفون ويستوعبون جيّدا فحوى تلك المقولة الشهيرة القائلة : من طلب المعالي سهر الليالي، كما أنّهم يعرفون كذلك دلالة وعمق الأحجية الأدبية اللفظيّة القائلة : إذا أردت الكرامة…فقل للكرى مه !. 
إنطلاقا من هذا المفهوم قد تغدو الأزمة الحقيقية فى بعض الأوساط الأدبية إذن هي أزمة قراءة قبل أن تكون أزمة نشر، ذلك أنّ الإنتاج الجيّد لابد أن يأخذ ويشقّ ويجد طريقه الى النّور والظهور مهما أسدلت عليه حلكة الليل ستائرالعتمة والظلام ، واعترضت سبيله الحواجز والصعوبات والعقبات الكأداء ، فبعد كلّ ليل طويل مدلهمّ لابدّ أن ينبلج صباح مشرق، ونهار وضّاء ،وقد عاش شكسبير، وسيرفانتيس ، والجاحظ ،والمتنبّي ، وسواهم من الكتّاب، والشّعراء، والمبدعين العالميين الكبار عندما ماتوا !.
_______________________
*كاتب من المغرب يقيم فى إسبانيا.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *