في الصمت المقارن…!


خيري منصور *

تنفرد رواية ‘صمت البحر’ لفيركور، وهي اقرب الى القصة الطويلة، بأمرين نادرا ما يجتمعان في نص واحد، الأول هو ان بطل القصة ليس الرجل او المرأة اللذين تدور الاحداث حولهما بل الصّمت، فهو الذي ينوب عن الشخوص على امتداد العمل.
لكنه صمت موظف يتخطى الامتناع عن الكلام، لأنه في مواجهة احتلال، والمنزل الفرنسي الذي تدور فيه الأحداث هو أحد البيوت التي قرر الاحتلال ان تستضيف ضباطا من الألمان، لهذا يصرّ الرجل والمرأة في صمت البحر ان يقاوما المحتل بتجاهل وجوده تماما، وان كان الصمت المتعمد هو صيغة القطيعة، والأمر الثاني ان كاتب هذا النص المجهول، وقد وقّعه باسم مستعار هو اسم مقاطعة فيركور التي ينتسب اليها، وحين أطلق سارتر على مجموعة مقالاته التي كتبت في اربعينات القرن الماضي اسم جمهورية الصمت، كان يتناغم تماما مع هذا النمط من المقاومة وذلك بعد ان اضاف اليه بعدا وجوديا، وكما يقول فإن الفرنسيين اعادوا اكتشاف هويتهم عشية الاحتلال، لأن مجرد كتابة اسم فرنسا على حائط قد يكلف من يفعل ذلك حياته، لكن هذا الصمت البليغ يصبح في خطر اذا تجاوزت العلاقة الانسانية الحالات الاستثنائية التي ينتجها التاريخ في لحظات جنونه، لهذا استعاض الضابط الالماني عن اللغة بالعينين، وقد اجتذب الفتاة التي كانت على امتداد النصّ تحوك قطعة قماش وتطرزها فيما ينشغل الرجل بتدخين الغليون بالقرب من مدفأة الحائط، وقد اوشكت الفتاة ان تخسر رهانها على الصمّت لفرط ما تقرّب منها الضيف الثقيل،هذا الصمت قابل للترجمة لأنه لغة اخرى لكن بلا معاجم ، ويجترح بلاغته من عمقه ومن الامواج التي تصطخب في داخل من قرر ان يكون الصمت سلاحه . ورغم انفراد صمت البحر بهذا الاسلوب اضافة الى المؤلف المجهول الا ان للصمت حكايات لا آخر لها، وحين قال اسلافنا العرب اذا كان الكلام من فضة فان الصمت من ذهب، كانوا يعبّرون بشكل ما عمّا قاله النّفري عن اتساع الرؤيا وضيق العبارة، فالثرثرة تأتي في أغلب الاحيان كقناع لصمت عقيم، وهناك مسرحية بطلها الحقيقي هو الثرثرة، بحيث يخرج من النظّارة ثلاثة اشخاص ويبدأون بالكلام عن الطقس، وتفاصيل الحياة اليومية، ثم تختلط اصواتهم بحيث يبدو الضجيج مبهما، مما يدفع المتفرجين الى الاستنكار، لكن المؤلف سرعان ما يظهر على الخشبة ليقول لهم ان كل ما فعله هو انه انتزع ثلاثة منهم كي يرددوا اقوالهم على مدار الوقت، وما شعروا به من غثيان وضجر كان في حقيقته على انفسهم لكن بعد ان انفصلوا عنها قليلا. واذا كان هناك صمت بليغ يقبل الترجمة فان بالمقابل هناك صمت ثرثار وعقيم يقول كل شيء ولا يقول شيئا هربا من السكون الفاضح للخواء.
* * * * * * *
حين اطلق اندريه مالرو على منجزه الفني الكبير حول الاثار الفنية الخالدة اسم اجراس الصمت، فلا بد انه سمع رنينا ما داخل متحف يلفّه الصمت، لكنه لم يسمعه بأذنه بل بداخله، تماما كما قال ارنولد تويني عندما ذهب الى مدرج روماني وهو يكتب مجلّده الضخم عن تاريخ العالم، يقول انه كان جائعا، فتناول قليلا من الحلوى، ثم فوجىء بالمدرج الروماني يمتلىء بالنظارة وسمع صوتا قادما من بعيد يقول له : تعلّق وانتظر.
هذا الرنين او الحفيف احيانا الذي نسمعه في متحف او بيت مهجور هو خطاب الغائب لكن من خلال الصدى، فالباب الذي يصرّ عندما نفتحه بعد هجران يتحول صريره ايضا الى خطاب وكذلك السرير الذي يتحول الى ذاكرة لمن اسلموه اجسادهم كما في قصة موباسان الشهيرة.
فالحجر العادي لا صمت له لكنه عندما يتحول الى تمثال يصبح له صمت مسموع، وكذلك القبر الذي يختلف عن أية حفرة اخرى بصمت رمادي نسمعه لكن من خلال مسامات الجسد وله رائحة نشمّها بالقلب وليس بالانف، وهذا ينطبق على الاطلال والمتاحف، فالصامت هو من كان ذات يوم صاخبا، وقد يكون هذا هو الفارق بين الصمت والسكون، فالكلمتان ليستا مترادفتين تماما، كما ان الوقت والزمن ليسا مترادفين ايضا، ما دام هناك زمن فيزيائي وآخر ميتافيزيائي، زمن يقبل التقطيع والتقاويم وآخر يواصل جريانه ولا يقطع مرتين كما يقول هيراقليطس.
* * * * * * *
كتب حمزاتوف في مذكراته ‘داغستان بلدي’ انه تعلّم الكلام في عامين لكنه انتظر اكثر من ستين عاما كي يتقن الصمت، وهنا يبدو الصمت اللغة الاخرى الاشدّ كثافة والاغنى دلالة لكنها غير قابلة للتواصل رغم ان يوجين يونيسكو في مسرحية ‘المغينة الصلعاء’ حوّل اللغة الى وسيلة لتعميق سوء التفاهم، فهي تدمّر الصمت، لكن اتقانها يتطلّب تدريبا داخليا وقدرة فائقة على التأمل، وهذا لا يبتعد كثيرا عن الموسيقى، فلكي يستطيع انسان ما ان يستقبلها كفن زماني بامتياز يجب ان يكون لديه مجال داخلي شاسع وعميق لاستيعابها، لهذا فهي مضجرة لمن يعانون من فراغ روحي سحيق، وقد لاحظت بالنسبة لمعظم الناس في بلادنا انهم يضجرون من المقدمات الموسيقية لبعض الاغاني وينتظرون بفارغ الصبر ما يعقبها من كلمات لأن هناك فنونا منها الموسيقى والرسم ليست قماشتها من اللغة، لهذا فلا يستطيع التعامل معها الا من يتقن لغة اخرى تخصها، وكم يبدو طريفا ان يطلب من رسام ترجمة لوحته بالوانها وظلالها ومساحاتها الى كلمات، تماما كما يطلب من موسيقي ان يترجم معزوفته الى لغة، لهذا اجاب أحد الموسيقيين من طلب منه ان يفسّر معزوفته قائلا له : ان شرحها الوحيد هو اعادة الاصغاء اليها .
* * * * * * * *
من أطرف التجارب في الصمت، ما حاوله احد الييبيز وهم من جماعة جيري روبين الذين تمرّدوا على الحرب ضدّ فيتنام، فقد جلس صامتا امام جهاز تسجيل لساعات ثم عرض الاشرطة للبيع، لأنها محمّله بصمته الخاص، وفي الادب ثمة موقفان يصبح فيهما الصمت بديلا اسمى للّغة، احداهما في مسرحية الملك لير لشكسبير حين لاذت كورديليا الابنة الصغرى بالصمت بسبب صدق عواطفها والثانية من قصيدة لحمزاتوف يقول ف يها انه احبّ ثلاث نساء، وحين قرّر الرحيل ودّعهن واحدة بعد الاخرى، الاولى صرخت وبكت، والثانية كانت اكثر اعتدالا، اما الثالثة فقد أغمضت عينيها وصمتت لكن لصمتها حفيفا بنفسجيا، ولأنها الأصدق فقد قال الشاعر العاشق لحصانه: اليها … الى الثالثة يا حصاني، كان الكلام والافراط في مَسْرَحَة العواطف تعويض عن الصدق المفقود



( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *