‘شاعرية الجسد’ لجاك لوكوك: الصمت الذي يتكلم!


محمد سيف *
 يتحدث كتاب ‘شاعرية الجسد’ لجاك لوكوك، الصادر لدى ‘أكت سود’، عن إدارة جاك لوكوك لمدرسته المسرحية الدولية، منذ عام 1956.
ففي جميع انحاء العالم، هناك تلاميذ تخرجوا من مدرسته، بين ممثلين ومخرجين ومصممي ديكور وكتّاب وحتى مهندسين معماريين، وجميع هؤلاء يرجعون في اعمالهم إلى منهجه المسرحي. فمن هو جاك لوكوك؟ ما خلفيته ؟ وما أهدافه وطرق تدريسه؟
يعتبر الكتاب ثمرة من ثمار العديد من المقابلات اجراها معه كل من جان غبريال كاراسو، وليليا جان كلود، تتحدت عن التمثيل الصامت الدرامي والقناع المحايد ودوره في العديد من المساحات الدرامية الكبيرة (ميلودراما، كوميديا دي لارتي، المأساة، وفن التهريج). يسافر لوكوك في أروقة مدرسته ويجعلنا نتتبع منهجه التربوي خطوة خطوة.
الكتاب درس في المسرح ودرس في التربية. ففي عام 1995، شاهدت للمرة الأولى في مسرح ‘بوف دو نور’ في باريس مسرحية ‘حيوات لوسي كابرول الثلاث’، وانبهرت بهذا العرض الذي كان يعتمد بكليته تقريبا على الجسد والشعرية، والبصرية، والمباشرة، والفرح، والخيال الغريب، حيث كان يلعب فيه الممثلون جميعهم بلغات مختلفة. هذا النوع من المسرح لم أكن قد رأيت مثله آنذاك من قبل. فتساءلت: من هؤلاء الممثلون ومن أين هم قادمون؟ وأي نوع من التقاليد المسرحية يقدمون؟ وكان الجواب: أنهم فرقة مسرحية عالمية، وجميع العاملين فيها درسوا في مدرسة جاك لوكوك، التي أسسها في باريس عام 1956 ودرّس فيها حتى وفاته في عام 1999. ألوف الطلبة في العالم اجمع تتلمذوا على يديه، وقد تابعتُ أنا دروسه أيضا مدة سنتين، ودرست التمثيل الصامت، والحركة، ومختلف أنواع التمثيل مع القناع، الذي يطلق عليها جاك لوكوك تسمية ‘القوانين العالمية للمسرح’.
جاك لوكوك رجل فعل اكثر منه رجل تنظير. لم يكتب الكثير عن طريقة تدريسه، لكنه نشر قبل وفاته كتاب ‘شاعرية الجسد’، الذي يلخص طريقته وتعاليمه التدريسية. كتب في عام 1987 مختارات واسعة بعنوان ‘مسرح الحركة’، يشرح فيها تاريخ فن التمثيل الصامت. وهناك كتاب آخر يحمل عنوان ‘مدرسة التمثيل’ يتطرق فيه إلى طريقة تدريس المسرح لجوزيت فيرال، وهي ذات صلة بمنهجه.
يلقي هذا الكتاب الضوء على مسار جاك لوكوك الفني وعلى المسرح الذي جاء ليدافع عنه. ندرس فيه طرقه والمناهج التي استخدمها وأغراضه، حيث يستعرض مسيرته الفنية التي قادته إلى العديد من المناطق في فرنسا وايطاليا.
ولد جاك لوكوك وتوفي في باريس (1921-1999)، وكان في بداية حياته معلّما للتربية الرياضية والعلاج الطبيعي. اكتشف روح المسرح الشعبي من خلال العمل مع فرقة مسرحية في مدينة غرونوبل الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا ما يشرحه في ‘شاعرية الجسد’، قائلا إن الفرقة كانت لديها ‘الرغبة في المضي بالمسرح قدما نحو جمهور شعبي ومباشرة’. في ايطاليا اكتشف لوكوك الكوميديا دي لارتي كشكل مسرحي يعود تاريخه الى القرون الوسطى، كتمثيل مباشر وليس نفسياً، تصاحبه أقنعة تغطي النصف الأعلى من الوجه. عمل في جامعة بادو وفي مسرح ‘بيكولو تياتر’، وكان أحد تلامذته الفنان المسرحي الشهير داريفو. يشير في هذا الكتاب إلى لقاء مهم جمعه بمصمم الأقنعة إميلتو سارتوري، فصمما معا القناع الحيادي الذي يعتبر أداة تعليمية أساسية لجاك لوكوك. في فيلم ‘رحلتين لجاك لوكوك وداريفو’، يتذكر الاثنان فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والعالم الذي لا بد من تشييده من جديد. هذه اللقاءات وإعادة الاكتشافات للأشكال المسرحية التي نسيت (التمثيل الصامت، والكوميديا دي لارتي)، وحيوية الاختراع والمعرفة العميقة للجسم والحركة، تشكل العناصر الاساسية التي اعتمد عليها جاك لوكوك في تعليمه في ما بعد. ومع أقنعة الكوميديا دي لارتي والاقنعة الحيادية التي اهداها إله سارتوري، عاد جاك لوكوك الى باريس ليفتح في عام 1956 مدرسته المسرحية، التي لا تزال موجودة وتقودها إبنته باسكال لوكوك، وهي تقع في مركز للملاكمة سابقا. يأتي الطلبة إليها من أنحاء العالم ليتابعوا فيها دروسا في التمثيل. تضم ثلاثة صفوف في كل منها 35 طالباً. طلاب الصفين الأول والثاني هما فئة واحدة، يدرسون في المكان نفسه ولكن بشكل منفصل. ويتم اختيار الطلبة بعد دراسة ملفاتهم التي ترافقها رسالة اعتراف من احد الاساتذة المسرحيين المعروفين، ثم اختبارهم ووضعهم تحت التجربة مدة ثلاثة أشهر. ويتم اختيار ثلث طلبة المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، بعد اختبارهم. المعيار الرئيسي للقبول هو ‘قدرة الطالب على التمثيل’، وقد سمّى لوكوك مدرسته ‘مدرسة الخلق’، ذلك أن ‘الهدف من المدرسة هو خلق جيل مسرحي مبدع، يحمل لغات يكون فيها التمثيل الجسدي للممثل حاضرا’. العمر المتوسط للطلبة بين 24 و25 وعاماً، ويستحسن أن تكون له تجربة مسرحية مسبقا. يشرح جان غبريال كاراسو في كتاب ‘مدرسة التمثيل’، أن ‘هذا العمر هو الذي تكون فيه التجربة الحياتية للطالب قوية بما يكفي لأن يتحمل هذه الرحلة المقترحة، من دون أن تتسبب له بمشكلات اكثر مما ينبغي في ما يخص الهوية الشخصية’. جميع الدروس باللغة الفرنسية، ومن الضروري أن يفهم الطالب اللغة الفرنسية، لكن التمثيل يمكن أن يكون في اللغة الأم للطالب. فاللغة في مسرح الجسد والحركة ليست بمهمة. الدروس تستمر سنتين، وهناك سنة تربوية ثالثة لأولئك الذين يرغبون في أن يكونوا أساتذة مسرح. جميع أساتذة المدرسة درسوا عند جاك لوكوك، وهناك اساتذة فتحوا مدارس خاصة بهم مثل: فيليب كولير وتوما باتريك. ومنذ الثمانينات، افتتح قسم للسينوغرافيا، ‘مختبر لدراسة الحركة’، اصبح جزءا لا يتجزأ من المدرسة. يُذكر أن طرق تدريب ممثلي ‘مسرح الشمس’ لآريان منوشكين تعتمد بشكل كلي تقريبا على دروس جاك لوكوك المسرحية، فهي كانت إحدى تلميذاته في الستينات، وتقول إن هناك قوانين عالمية للمسرح، وإن جاك لوكوك كشخص يذكّرنا بها.


– القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *