عبد الباري عطوان
لم اشاهد في حياتي رئيسا يتملق الاسرائيليين ويستجدي رضاءهم، ويبتذل في التغني بهم وانجازاتهم وتاريخهم، مثل الرئيس الامريكي باراك اوباما، الذي سجل اكبر سابقة في تاريخ بلاده بفوزه بالرئاسة وهو المرشح غير الابيض.
توقعنا مخطئين ان الرجل بحكم لونه، وانتمائه الى فئة عانت لقرون من الاضطهاد، وتحدث بمرارة عن العزل العنصري لأجداده واعمامه في شيكاغو عندما كان محظورا عليهم الجلوس مع البيض في حافلة واحدة، او في الجزء غير المخصص لهم في الحافلات، توقعنا منه ان يكون مختلفا، واقرب الى تفهم معاناتنا واهلنا تحت الاحتلال العنصري الاسرائيلي، ولكنه خيب آمالنا، وذكّرنا بالعم توم في الرواية الامريكية الشهيرة، ذلك الخادم ‘الزنجي’ الاسود الذي يلغي انسانيته وكرامته امام سيده الابيض.
فاجأنا المستر باراك ‘حسين’ اوباما في خطابه الذي القاه امام مجموعة من الشبان الاسرائيليين في القدس المحتلة، عندما طالب، وهو الافريقي، الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وحثّ العرب على التطبيع معها، وقال للذين ينكرون حق اسرائيل في الوجود بان انكارهم هذا مثل انكار الارض والسماء، مؤكدا ان اسرائيل لن تزول، ولن تذهب الى اي مكان، فطالما ان الولايات المتحدة موجودة فإن الاسرائيليين لن يكونوا وحدهم.
لا نفهم لماذا استخدم اوباما ترديد هذه الكلمات، ولماذا اقدم على هذا التزلف المهين، فإسرائيل هي التي تهدد وجودنا، وهي التي تنكر حقوقنا، وهي التي تحتكر امتلاك اكثر من 300 رأس نووية كفيلة بتدمير المنطقة برمتها.
‘ ‘ ‘
نستغرب ان يخرج علينا رئيس افريقي الاصل واللون، ويطالبنا بما رفضه اجداده من تمييز عنصري، وقدموا آلاف الضحايا والشهداء لكسر كل قيود العبودية والتمييز العرقي والديني، بمطالبته لنا بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية عنصرية تهدد وجود ربع سكانها، وتسحب منهم حق المواطنة.
جميع الرؤساء ‘البيض’ لم ينحدروا الى هذا المنحدر العنصري المتدني، ومعظمهم مارسوا ضغوطا على اسرائيل من اجل اجبارها على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، فما الذي دفع اوباما للشذوذ عن القاعدة والزحف تحت اقدام نتنياهو، طالبا الصفح والغفران بالطريقة التي شاهدناها في اليومين الماضيين؟
زيارة اوباما للمنطقة ليست زيارة رجل سلام، وانما رجل حرب، جاء من اجل اشعال فتيلها، والاتفاق على التفاصيل مع نظيره الاسرائيلي نتنياهو الذي اهانه عندما اختار علنا تأييد ميت رومني المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة.
اوباما اعطى الضوء الاخضر لاسرائيل لشن هجوم على ايران دون التشاور مع الولايات المتحدة مسبقا، وحثّ العالم على وضع حزب الله على لائحة الارهاب، وتعهد بعدم السماح لايران بامتلاك اسلحة نووية.
مؤسف ان يطالب اوباما الرئيس محمود عباس بالعودة الى المفاوضات دون شرط تجميد المستوطنات، وهو الشرط الذي وضعه بنفسه اثناء خطابه الذي القاه في جامعة القاهرة بعد اسابيع من فوزه بالرئاسة.
مثل هذه المواقف المتطابقة مع نظيرتها الاسرائيلية بالكامل، علينا ان نتوقع اربع سنوات عجاف، هي مدة ولاية اوباما الثانية،عجاف بالنسبة الينا كعرب ومسلمين، وسمان بالنسبة الى الاسرائيليين وحكومتهم اليمينية المتشددة.
الفلسطينيون الذين تظاهروا في مدينة رام الله، وتصدت لهم قوات الامن الفلسطينية، ومنعتهم من الاقتراب من مقر السلطة، حيث هبطت طائرة اوباما، هؤلاء كانوا يمثلون مشاعر الشعب الفلسطيني الصادقة تجاه هذا الرئيس الامريكي، الذي ادار ظهره للظلم والمظلومين، وانحاز الى الظالم والجلاد.
‘ ‘ ‘
السلطة الفلسطينية برئاسة السيد عباس التي قطعت حوار المصالحة بمجرد الاعلان عن زيارة اوباما، تتحمل المسؤولية الاكبر عن هذا التحول في الموقف الامريكي لمصلحة اسرائيل، لانها ما زالت تراهن على مفاوضات عبثية، وتأمل خيرا من الاسرائيليين، ولهذا منعت المظاهرات واجهضت انتفاضة كانت تتبلور ارهاصاتها بعد استشهاد الاسير عرفات جرادات، الذي استشهد اثناء التعذيب في سجون الاحتلال، ولم تطلب مطلقا التحقيق في استشهاده.
الآن وبعد ان ظهر دخان اوباما الاسود، وتعرّفنا على حقيقة مواقفه المنبطحة بالكامل تحت اقدام نتنياهو، من المفترض ان نرى مواقف مختلفة، ان نرى انتفاضة، وعصيانا مدنيا، وذهابا الى محكمة مجرمي الحرب الدولية، ومجلس حقوق الانسان، وبذل كل الجهود لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي.
اخيرا نأمل ان الصك الذي حمله اوباما ولوّح به الى السلطة، بقيمة 500 مليون دولار، لن يعطي مفعوله في تدجين الفلسطينيين وتأكيد انطباعه الذي يحمله بأنهم شعب متسول، ينتظر فتات المساعدات المالية من الدول المانحة، مقابل التخلي عن حقوقه المشروعة، والتوقف عن المقاومة للاحتلال بكل اشكالها.
اوباما يقدم للاسرائيليين القبب الحديدية والطائرات الحديثة، والتعهد بدعم امنهم ووجودهم الى الابد، بينما يقدم للفلسطينيين صكوك الاذعان.. انها قمة المأساة.
ثم لماذا يدعو العرب للتطبيع مع اسرائيل، هل من اجل مكافأتها على تهويدها للقدس المحتلة، وتوطين 600 الف مستوطن في الضفة، واقتحامهم للمسجد الاقصى، وتقويض اساساته واحتقارها لمبادرتهم السلمية؟
انه زمن النفاق الامريكي والهوان العربي دون منازع.