د. إبراهيم خليل
يبدو أن بعض الدارسين من النقاد، والباحثين في الأدب، لا يجدون موضوعات جديدة للكتابة، فيلجأون لما سبق من موضوعات ثم يحاولون إعادة كتابتها مرة أخرى. مع إضافة هنا، وتمويه هناك، ليبدو المقال أوالبحث جديدًا.
وقد يحيلُ الكاتب من هؤلاء بإشارة خجولة لما كان قد كتب في الموضوع تجنبًا للشبهة، واستبعادًا للتهمة. خواطر عنت بالبال لدي وأنا أقرأ مصادفة بحثا جرى نشره بعنوان ‘ النص الغائب في شعر البياتي ‘ للناقد محمد الغزي نشر في مجلة نزوى العُمانية في العدد ذي الرقم 50 وهو يحمل تاريخ يوليو تموز 2009 على موقع المجلة الإلكتروني.
أما لمَ خطرت بذهني هذه الخواطر، فلأنني اكتشفت أن كتابا آخرين يقومون بهذا، ولو اكتفوا بالإغارة على آثار المتقدمين لما كان في ذلك من الخطر على الأدب، والفكر، الشيء الكبير. بيد أن الغزي للأسف- لم يكتف بمقالته المذكورة بأخذ الفكرة عن شبَه ما بين قصيدة الحي المكسيكي للشاعر فيلتشرFletcher وقصيدة سوق القرية للبياتي وهي من ديوان أباريق مهشمة، مما كتبه الأديب الراحل إحسان عباس(1920- 2003) ولكنه حرف أقواله أيضًا تحريفا لا هدف له، ولا غاية، إلا تسويغ العنوان الذي اختارهُ، وهو النص الغائب في شعر البياتي، فادعى أن إحسان عباس في كتابه ‘ عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث ‘ يؤكد أنّ قصيدة سوق القرية تقوم على ما يشبه الاستنساخ الذي جعل من قصيدة البياتي قصيدة تنحدِرُ من قصيدة فلتشر هذا Fletcher مثلما ينحدر المولود من رحم الوالدة.
وهذا شيءٌ لا نجده في ما كتبه إحسان عباس عن القصيديتين، وإنما الذي يقوله عنها يتلخص في أن البياتي يلتقط عناصر الصورة المبعثرة، ويقوم بجمعها في صورة، وهذا هو منهج الصوريين imagists من أمثال فلتشر Fletcher وأورد مقطعًا من قصيدة الحي المكسيكي، تتضمّن صورة شعرية التقط صاحبها العناصر المبعثرة، وصاغ منها صورة على وفق المنهج الذي سار عليه الصوريون. ولم يشر إلى أي شبه بين القصيدتين، لا من حيث الفحوى، ولا من حيث العناصر الأخرى للتشكيل الشعري. ولم يرد لدى إحسان عباس ما يفيد أن البياتي تأثر بتلك القصيدة، أو اطلع عليها، وأن قصيدته تنحدر من الحي المكسيكي تحدّر المولود من رحم الوالدة. وحتى الفكرة التي أقام عليها محمد الغزي هذه الدراسة (المقالة) وهي فكرة النص الغائب لا تتساوق مع الفكرة التي ينطلق منها إحسان عباس في مقالته، بدليل أن القصيدة نفسها (سوق القرية) يرى فيها أيضا تقاربًا مع منهج إليوت في الصورة تارة، واختلافا تارة أخرى. ومُخْتصر القول أن إحسان قارن منهج البياتي بمنهج الشعراء الصوريين، ولم يقارن القصيدة بقصيدة على أساس أن إحداهما أثرت في الأخرى، وأنها لذلك تمثل نصا غائبا في النص المعطى، وهو ‘ سوق القرية ‘ أو’ الجدار ‘ أو ‘ الباب المضاء ‘ وغيرها. والسؤال الذي لا بد من تفجيره في نهاية هذه الكلمة هو ألم يجد الغزي ما يشغل به نفسه من أفكار جديدة في الأدب حتى يضطر لإعادة كتابة ما كتبه إحسان عباس ونشره عام 1955؟ ألم يظهر فيما تلا ذلك من سنين ما يستثيره ويغريه بالكتابة فيه دون أن يضطر للاتكاء على ما كتبه إحسان عباس فيجتر المقال اجترارًا، ويعيد القول في الموضوع استنساخًا وتكرارًا؟ كان بإمكان الناقد الغزي أن يذهب لما هو أبعد في الدرس، والتحليل، فيعود لقصيدة فليتشر في الأصل الذي اقتبس منه إحسان عباس الشاهد الشعري، وهو كتاب مونرو Monroe وعنوانه : الشعر الحديث( مقدمة ومختارات) The New Poetry(An Anthology)Introduction , New York , 1919 ويقوم بدراسة القصيدة، والمقارنة بينها وبين سوق القرية، ليؤكد لنا أن قصيدة ‘ الحي المكسيكي ‘ تتراءى لنا من خلال سوق القرية بوصفها نصًا أملى على البياتي بعْضَ محتواه، وبعض أسلوبه الشعري والفني، أمّا أنْ يرسل الأحكام إرسالا من غير تدبّر، ولا رويّة، ويقوّلَ الناقد إحسان عباس ما لمْ يقلْ، فذلك ما لا ينبغي للمتابع أنْ يسكت عليه، أو أنْ يمر به مرور الكرام.
*ناقد وأكاديمي من الأردن