روسدان في ” بلاد العجائب “




هاني الحوراني *
( ثقافات )

يعد معرض الفنانة الجورجية روسدان خيزنشيفيلي ” بلاد العجائب “، والذي حلَّ بالعاصمة الأردنية في شهر ( آذار / مارس 2013 ) حدث فني إستثنائي يحمل طابع الفرادة، إذ يبقى في ذاكرة من شاهدوه لوقت طويل. تنبع فرادة أعمال المعرض من حميميته والشحنة العاطفية التي يطلقها في وجه المشاهد، وكذلك من متانة بنية الأعمال والسيطرة المحكمة للفنانة الجورجية على مساحة العمل وعلى خامة الألوان الزيتية التي توظفها بإحترافية عالية من أجل الوصول إلى عين المشاهد وقلبه بسلاسة.

يغرد معرض” بلاد العجائب ” “خارج السرب “، فهو لا يقتفي أثر الموضات الرائجة في الحركة التشكيلية المعاصرة، وإنما يقتفي المسار التاريخي للوحة الجدارية و التي تطورت عبر الزمن، فمقاييس الأعمال تتراوح ما بين الحجم المتوسط والصغير، والمواد المستخدمة هي الألوان الزيتية التي هجرها معظم الفنانين المعاصرين، ومع ذلك فإن لوحة روسودان خيزنشيفيلي تنتمي إلى عالم معاصر، رغم تعاملها مع موضوعات تجمع ما بين الخيال والواقع من خلال أبجديتها الخاصة.

و ” بلاد العجائب ” التي تتحدث عنها روسدان في أعمالها، هي في واقع الأمر عالم روسودان نفسه، حيث المرأة هي مركز هذا العالم، بينما يتنوع ” محيطها” في كل لوحة بتفاصيل حميمة ومثيرة من الحياة اليومية. مثل طقوس شرب القهوة، التي تعشقها روسودان في حياتها الحقيقية. ومثل الأجواء المنزلية التي تحتل حيزاً هاماً في فضاءات لوحاتها. فهناك تارة السرير التقليدي وزخارف الشراشف، وهناك المقاعد الخشبية والترابيزات المتقشفة، وهناك البيانو أو جهاز ” الجرامافون” القديم، أرضيات الغرف المغطاه ببلاط معيني الشكل. هناك المائدة وآنية الزهور في خلفية شاربة القهوة. إنه عالم أليف وحميم ويحفل بعشرات التفاصيل الحميمة التي كانت جزءاً من حياتنا اليومية وباتت اليوم جزءاً من عالم حلمي وطفلي يقبع في قعر ذاكرتنا، أو نراه في أحلامنا أو نطالعه في صفحات الروايات، وها نحن نراه في لوحات روسدان خيزنشيفيلي، وقد تحول إلى تفاصل حميمة من عالم يصنع خيال الفنانة الجورجية.

حين تتحدث روسدان عن فهمها لبلاد العجائب تقول أنه أقرب ما يكون إلى فضاء متخيل، حيث تعيش شخصيات تلك البلاد حياتها الخاصة. لكن روسودان تعرف أن عالم بلاد العجائب رغم طابعها المتخيل فإنه في الوقت نفسه عالم واقعي يحيط بنا، لكن رؤيته يتطلب النظر اليه من الوجه الأخر للمرآة. وبكلمات أخرى فهو ليس مجرد إنعكاس حرفي للواقع الذي تظهره المرآة عادة، وإنما يتطلب أكثر من ذلك إلى الخيال والحلم لرؤيته كما رأته روسودان في أعمالها.

تشريح أعمال روسدان:

تضافرت في أعمال روسدان عدة عناصر شكلت فضاء لوحاتها وطبعتها بطابعها الخاص. أبرزها الكيفية التي تنسج فيه معمار لوحاتها. ففيما عدا إستثناءات قليلية فإنها تعمد عادة إلى شق لوحتها أفقياً إلى شطرين ( وتفسر ذلك عادة بأنهما يرمزان إلى السماء والأرض). ويشكل الشطر الأفقي للوحة خلفية عامة، حيث تتوزع الألوان الغامقة والألوان الفاتحة ( أو مشتقات الأبيض والأسود) بين شطري اللوحة. وعلى هذه الخلفية العامة للأعمال تحتل الأجسام المركزية ( وغالباً المرأة ) مركز العمل أوتمثل كتلة رئيسية جانبية فيه. وليس نادراً أن تغطى المرأة الجزئين العلوي والسفلي من اللوحة، كما لو أنها ترسم المرأه وظلها. 

الشذوذ عن هذا النمط المعماري يتجلى في أبهى صورة في لوحة عرضية (طاولة القهوة)، حيث تهمل روسدان منظور الطاولة التي تتوزع على سطحها ثمانية فناجين من القهوة. هنا نجد أن لكل فنجان مجاله الحيوي المستقل، عاملة على معالجة خلفيات الفناجين باللون الأبيض. هكذا نحن إزاء معالجة فنية فذة للتناظر بين الفناجين الستة وفضائها بطريقة تنفي الرتابة عن العمل، وفي الوقت نفسه تضفي طابع الوحدة عليه.

رموز وإشارات:

إلى جانب البناء التكويني المميز للوحة روسدان يحفل فضائها العام بالعديد من المفردات الخاصة بها، دوائر تتوسطها أجسام مصلبة أو مجسمات مفرغة لأشكال مكعبة أو مخروطية والكثير من النقط و ” الشحطات” التي ترمز عندها إلى الهواء ترسم روسدان رموزها مباشرة بالفرشاة تارة، وتارة أُخرى تحفرها حفراً على سطح اللون قبل أن يجف، تاركة سطحاً مليئاً بالخدوش و الإشارات والمستويات اللونية التي تجعل من فضاء لوحتها عالماً حلمياً يستدرج التأمل والذهاب بعيداً في خيالات هذه الفنانة.

العنصر الثالث، وربما الأهم هو ” باليتة” ألوانها. إن غالبية أعمالها منفذة بلونين رئيسيين أو ثلاثة، لكنها تحسن إشتقاق درجات لونية لا حد لها من العناصر اللونية الأساسية، مازجة ما بين مبدأي الإنسجام اللوني ( الهارموني ) الذي يسم غالبية مساحة اللوحة، مع التضاد اللوني الذي غالباً ما يقتصر على نقاط مركزية في اللوحة ما يضفي أجواء من الدهشة والإثارة على كل واحدة منها. إن معالجة روسدان الحساسة للألوان الزيتية تعطى ميزة خاصة لأعمالها وتظهر سيطرتها التامة على عجينة ألوانها.

من المرجح أن روسدان خيزنشيفيلي مدينة لثقافة بلدها، جورجيا، الذي كان يوماً جزءاً من الإتحاد السوفياتي، وبات بلداً مستقلاً معتزاً بشخصيته القومية، والذي يشاطر العالم العربي العديد من أنماط الحياة والثقافة، بما في ذلك الغنى الروحي والخيال الشعبي. كما أن الفنانة الجورجية إستفادت بقوة من تقاليد التعليم الفني الشديد الصرامة، والذي تلقته من دراستها في أكاديمية الدولة للفنون في تبليسي، العاصمة الجورجية. وربما أفادتها دراستها العليا لفنون السينما في تشكيل فضاء لوحتها، حيث ألزمتها بإعداد عشرات ومئات التخطيطات الفنية للمشاهد السينمائية، علماً أنها تفادت إحتراف الإنتاج السينمائي و إختارت البقاء كفنانة تشكيلية مستقلة.

أقامت الفنانة روسدان خيزنشيفيلي ستة معارض شخصية لأعمالها، إثنان منهما في تيليسي، حيث تعيش و تعمل، وأربعة في عواصم عالمية مثل موسكو ولندن وباريس وفي النرويج، كما شاركت في معارض جماعية في بلدان أخرى منها الولايات المتحدة وهولندا. وها هي تقيم لأول مرة معرضها الشخصي السابع في العاصمة الأردنية بدعوة من جاليري رؤى32 للفنون.

يذكر هنا أن الفنانة روسدان خيزنشيفيلي من مواليد عام 1979، وهي متزوجة وأم لطفلين.

* هاني الحوراني رسام ومصور فوتوغرافي وباحث في الفن التشكيلي.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *